قصة وطن
2002
كان اليوم هادئا فى وحدة
الاطفاء باحدى ضواحى
القاهرة فقد أوشكت النوباتجية
على الانتهاء دون أى بلاغات
أو حوادث حرائق تضفى بعضا
من الاثارة على ملل سكون
الليل وكآبة ظلامه ويبدو
أن البعض أراد أن يخرج
من هذا المحيط الرتيب
.. حين اشتد النقاش المعتاد
بين الرقيب / ( محمد ) مع زميله
ورفيقه / ( متى ) أثناء تناولهم
طعام العشاء المتواضع
وهم يتابعون أحد برامج
التحليل الرياضى على
شاشة تلفازهم الصغير
، ليصرخ ( محمد ) فى وجه رفيقه
وفمه محشو بالطعام : ياعم
انتوا مهما عملتوا من
مؤامرات وتلفيقات احنا
برضه بنكسب.. عارف ليه؟؟
.. لأننا الأحسن .. فيترك (
متى ) اللقيمة من يده قبل
أن يبتلعها ويرد بصوت
منخفض حاول أن يكون هادئا:
مؤامرات ايه ياعم ده انتوا
بتوع الحكومة.. وللا انت
نسيت تاريخكم الاسود
وبطولاتكم الملفقة يابتوع
( القرن )..... تنطلق من ( محمد
) ضحكة مفاجئة تخرج ماتبقى
فى فمه من طعام لتسقط فى
اناء الطعام المشترك
مع رفيقه .. فيشعر ببعض الحرج
.. لكن تحت تأثير وضغط والحاح
كلمات الرد التى قفزت
الى رأسه تناسى حرجه ورد
بسخرية: دايما كدة انتم
جاهزين بالتشكيك وعقد
الاضطهاد اللى لبساكم
.. أنا عازركم .. عارف ليه
لأنكم ( أقلية )!!! تستفذ الكلمة
الأخيرة ( متى) وتخرج بعضا
من مخزون شيطانى داخله
.. تراكم فى أيام خوالى بفعل
فاعل ابليسى .. ليجعله فى
كثير من الأحيان مفعولا
به.. فيقفهر وجهه وتتجهم
ملامحه وتخرج الكلمات
من فمه عصبية عنيفة كطلقات
الرصاص : أقلية!!!! .. احنا أقلية
؟؟؟؟؟ .. هو كل حاجة تبع الحكومة
لازم تكون أغلبية يابتوع
الحزب الوطنى .. دايما تقلبوا
الحقيقة من غير أساس أو
براهين .. مين قال انكم أغلبية
.. هو انتم كنتم عملتم احصاء
يعنى؟؟ .. دايما كده بتغالطوا
وتغيروا الحقيقة.. بالضبط
زى مابتقولوا ( اننا ) فى
مصر أقلية رغم ان مصر طول
عمرها بتاعتنا و.. يهب ( محمد
) ليقاطع متى قبل أن يكمل
كلماته: ايه يابنى انت
حتخرف وللا ايه؟؟ .. ايه
اللى جاب الكورة فى الدين
والسياسة .. انت مش حتفوق
أبدا؟؟ .. يلتقط ( متى ) أنفاسه
ويخرج زفيرا طويلا فى
محاولة منه لكى يهدئ من
شدة عصبيته ثم يعقب بكلمات
مقتضبة: مافيش فرق .. كله
واحد .. والاسلوب واحد .. لحد
ماقرفتونا... يتذكر ( محمد
) الطعام فيلتقط قطعة من
فطائر المشلتت صنعة والدة
( متى ) ويرد بتعقل : والله
انت عبيط .. وانت نفسك مش
مصدق الكلام ده.. الله على
مشلتت أمك .. خدلك حتة ماتتكسفش
.. يبتسم ( متى ) ويمسك بقطعة
من الفطائر ويقذفها فى
فمه, وقبل أن يذدردها .. يدخل
عليهم ( القائد ) وهو يصرخ:
انتم فين؟؟؟ .. انتم مش سامعين
الاشارة ؟؟ .. طبعا يابتاكلوا
يابتتناقروا كالعادة...
فيرد ( محمد ) بصوت مرتعش
: أبدا يافندم ده احنا لسه..
فيقاطعه ( القائد ): انت لسة
حتشرحلى.. ياللا بسرعة
فيه بلاغ عن حريق فى شارع
رقم( 10) اجهزوا بالقوة .. وطبعا
زى كل مرة ( محمد ) هو قائد
المجموعة.. فتعاود ( متى
) مشاعر الغيرة فيندفع
قائلا : مش ممكن ( أبدأ ) أنا
النهاردة ياأفندم؟؟ يلتفت
القائد ل(متى ) متعجبا ويرد:
مش معقول كل مرة كدة يا(متى)..
انت عارف ان ( محمد ) أعلى
منك فى الرتبة .. وكمان الاحداث
اللى فاتت أثبتت كفاءته
ومهارته .. والنياشين والأوسمة
اللى حصل عليها هى تاريخ
يشهدله قدام أى حد تانى
مش انت بالذات.. حرام عليك
خلينا فى المهم مش كل مرة
نفس السؤال ونفس الاجابة..
ينظر ( متى ) الى الأرض ويلتزم
الصمت .. قبل أن تهب المجموعة
لأداء مهمتها النبيلة..
لتصل لموقع الحادث .. حيث
كانت النيران تلف المكان
والرؤية تكاد تكون منعدمة..
فيبدأ ( محمد ) فى تنظيم أفراد
القوة .. كل فى مكانه حسب
المهمة الموكلة اليه
.. وكعادته يكون ( محمد ) فى
المقدمة.. ليبدأ فى تسلق
أحد الأسوار العالية
ليصل للمنبع الرئيسى
للنيران لكن ولسؤ الطالع
ينقطع حزام الأمان فيسقط
على الأرض.. ويبدو أن الاصابة
كانت شديدة لدرجة أفشلت
كل محاولاته للنهوض والاستمرار
.. فى الوقت الذى بدأت فيه
السنة النيران تطاوله
بل وتهدده جديا فى حياته
.. كل هذا حدث بالمصادفة
أمام زميله ( متى ).. الذى
وقف حائرا وبداخله بركان
من المشاعر المتناقضة..
هل أنقذه ليخطف هو الأضواء
وأظل كعادتى فى الظل ؟؟
.. لالالا .. هذه فرصتى فليفشل
.. بل فليموت.. فأنا بدونه
حتما سأكون فى أفضل حال..
لكن ..حين دبت فى رأسه فكرة
موت ( محمد ) ارتج جسده بقشعريرة
هائلة ابتلع بعدها بعضا
من لعابه .. ليجد طعم الفطائر
مازال عالقا بفمه.. فيتذكر
آخر كلمات ( محمد ) له .. فتدمع
عيناه ويحس بالخجل من
نفسه .. ليهب مسرعا لرفيقه
يرفعه عن الأرض بعيدا
عن خطر النيران .. قبل أن
يقف أمامه بكل أدب واحترام
يتلقى تعليماته لاتمام
المهمة.. وتنتهى المهمة
.. وتنطفئ النيران .. وتعود
الفرقة الى موقعها ليكون
فى استقبالها ( القائد
) الذى هلل مرحبا: حمدلله
على السلامة .. كالعادة
ممتاز يا (محمد ) انت سوبر
ياواد .. تستاهل النيشان
المرة دى كمان.. فينظر ( محمد
) الى ( متى ) ليجده راضيا
مبتسما .. فيرد على قائده
بسعادة وثقة: لا ياأفندم
.. المرة دى الوسام ليا ( أنا
) و( متى )........
الكاتب
د/ محمد فاروق عبد الكافى
==========================================================
طعنة فى القلب
2011
لقاء مع الماضى
تثاقلت قدماى فوق درجات
السلم المتهالك لتلك
المشفى القديم ذات الجدران
المتهالكة التى أكل منها
الدهربأيامه الخوالى
.. حلوها ومرها ، ورائحة
الموت والحياه على حد
سواء تشتم روائحها فى
كل جنبات أركانها ، حين
زاغ البصر منى عندما كنت
أبحث فى الوجوه الشاحبة
على الأسرة المترنحة
بكل حجرة من الحجرات هذا
المبنى العتيق , وحين عثرت
على مبتغاى .. كان رجل فى
العقد الثامن من عمره
.. ذو وجه متجهم جامد.. خط
الزمن على قسماته بلمساته
القاسية فصار أكثر عبوسا
, لايمكنك أن تقرأ ما بداخل
هذا المحيا من مشاعر , هل
هو الحزن أم الندم .. ربما
اليأس .. أو ربما لاشئ .. والأخيرة
قد تكون الأوقع فهذا الرجل
لم يعرف عنه الاحساس والمشاعر
طوال معاصرتى له منذ تفتحت
عيناى فى منزلنا فى أحد
ضواحى مصر القديمة الأشد
فقرا .. فقد كان هذا الرجل
هو رب أسرتنا .. وكنت أدعوه
أبى .. رغم أنى فى قلبى لم
أحسها يوما ، هذا الرجل
نشأت أمام عينيه وهاهو
قارب على فراقنا ولكنى
لم أحس يوما بأبوته , ياله
من رجل قاسى .. تغلبت أنانيته
على واجباته تجاه أسرته
المسكينة فراح يركض وراء
نزواته وملذاته .. تاركا
أمى واخوتى بين يدى الله
.. ولولا هذه العناية الالاهية
لكنا بسبب عربدته واستهتاره
الآن فى عداد اللاوجود
, ترك أمى تلك المرأة الطيبة
المسالمة .. مثلها ككل سيدات
عصرها .. حاضنة لأطفالها
رغم قصر ذات اليد وقلة
الحيلة.. فقط تعطى الحب
والحنان وترفع يدها للسماء
تسأل الرب الستر والحماية
، وقد لبى الله نداءها,
فاستمرت الحياه دون دعم
من رب الأسرة .. ولكن برعاية
رب السماء.
نظرت الى عينيه علنى استشف
ما يدور بخلده فوجتها
عين جامدة .. حاولت شفتاى
أن تنطق بعض كلمات المواساه
فلم تطاوعنى .. انتظرت طويلا
حتى أعرف ما يجب على عمله
.. هل أتركه لحاله وأمضى
.. لا لن يطاوعنى قلبى أن
اتركه فى هذا المكان القذر..
ولكن ماذا أفعل؟؟ .. فقلة
ذلت اليد تقيدنى من فعل
أى شئ .. لحظتها تذكرت هذا
اليوم الذى شاهدته فى
احدى الحانات وهو يغدق
على احدى خليلاته بالكثير
من الأموال وقت كان المنزل
يخلو من ثمن الطعام .. لكن
رغم هذا لم أستطع أن أغادره
على حاله .. فدسست يدى فى
جيبى وأخرجت بعض الوريقات
النقدية وذهبت لمسئولة
التمريض أستحلفها بأن
تختصه بالاهتمام والرعاية
.. فعلت هذا وأنا على يقين
بأن شيئا من هذا لن يحدث
.. لكننى ربما فعلت هذا ارضاء
لضميرى كى يسمح لى أن أمضى
لحالى من هذا المكان دون
أن يجلدنى بعذاباته .. وقد
كان .. فقد تسارعت قدماى
تختطف درجات السلم .. خارجا
من المشفى .. وعائدا الى
منزل الأسرة بمصر القديمة
.
مصر القديمة
لم تتغير طقوس الحياة
داخل المنزل رغم مرض رب
الأسرة .. فهو كان بالكاد
يتواجد وسط أسرته .. ولايعرف
عن دقائق أمورها أى شئ
، ولذا فالحياه تسير كما
فى السابق .. نظرت الى الحائط
أمامى فلمحت صورة أخى
الأكبر الغائب ( راضى ) ..
فدمعت عيناى حزنا على
فراقه قبل أن أقرأ الفاتحة
لروحه التى لا تفارقنى
.. ثم حاولت الخروج من حالة
الحزن التى انتابتنى
.. فتابعت جولتى البصرية
بين الصور الحائطية لأفراد
أسرتى .. فهذا أخى الكبير
( على ) وهو غالبا يقضى وقته
فى المسجد وسط أصدقائه
من الملتحين , وتلك لأخى
الأوسط ( ناصر ) الثائر كعادته
الذى دائما ما يخرج من
الجامعة ليجتمع مع زملائه
فى احدى المقاهى للتحاور
والتشاور فى أمور سياسة
شتى ، وهذه صورة ( نبيلة
) الأخت الوحيدة تلك المسكينة
حبيسة المنزل منذ انتهائها
من دراستها المتوسطة
.. تقضى أيامها مثل أمها
بين جدرانه البالية العتيقة
.. وكعادتها دائما ما تتوجد
أمام الشرفة تتفقد القاصى
والدانى وكأنها تبحث
عن مجهول قد يأتى وينتشلها
من حاضرها الكئيب .. وهذه
الصورة لأخى الأصغر ( ياسر
) الذى كما اعتاد غائبا
يلهو مع أصدقاء السوء
، وأخيرا هذه صورة أمى
يوم زفافها .. وهاهى المسكينة
مثل كل يوم تسكن جدران
المطبخ الصغير بأدواته
البدائية القديمة تعد
مايتسنى من طعام يسد رمق
أفراد العائلة . حين توجهت
اليها متحدثا بصوت هامس
قائلا: - ماما .. أنا كنت عند
بابا النهاردة.... ولم ياتى
منها أى رد فعل .. لا كلام
ولا حتى ايماءات .. فقط وجه
جامد متعب .. يخفى وراء تجاعيده
قسمات ملاحة وجمال كانت
فيما مضى قبل أن تقتلها
قسوة الأيام , لم أنتظر
ردها أكثر من هذا .. فالتفت
الى الباحة أتفقد من بها
.. لم أجد سوى نبيلة فى جلستها
اليومية أمام الشرفة
, فصحت اليها متسائلا : - هو
الواد ياسر لسة مرجعش؟
- لأ .. تصاعدت مشاعر الغضب
الى رأسى . فاستدرت موجها
كلامى الى أمى: - وبعدين
ياماما فى الواد ده ؟ .. أنا
خايف عليه قوى .. يعنى هو
مش كفاية كل اللى بيجرا
لنا ؟ ولم ترد أمى على كلامى
للمرة الثانية .. فقط نظرت
بأعينها للأعلى وكأنها
تخاطب ملاذها الأوحد
سرا دون كلمة واحدة .. تماما
كما كانت تفعل دائما مع
كل ما مر بها من ملمات. دلفت
الى حجرتى أو بالأدق حجرتى
أنا واخوتى ونزعت عنى
ملايسى وارتديت جلبابى
الأبيض واستلقيت على
فراشى المتواضع .. هذا الذى
جمعنى باخوتى ( على ) و ( ناصر
) و ( ياسر ) قبل أن يضيق بنا
.. فيضطر ( على ) أن يفترش أريكة
الباحة كل ليلة حتى يتسع
الفراش لثلاثتنا قدر
الامكان , وأغمضت عيناى
وسرحت بذهنى فى ذكريات
ماضية حاولت أن أجد مايبهج
فيها فلم أجد الا ( ليلى
) .. شعاع الأمل الأوحد فى
ظلام حياتى الحالك .. فانتابتنى
رجفة تبعتها احاسيس بالراحة
, وعلى حين غرة .. ومن شدة
الارهاق .. غالبنى النعاس
فاستسلمت له ورحت فى سبات
عميق.
نداء الشهيد
داهمتنى سهام الأحلام
أثتاء نومى .. فرأيتنى أسير
فى طريق مظلم وقد كلت قدماى
من التعب .. فجلست على جانب
الطريق أنشد بعض الراحة
.. قبل أن ألحظ شخص ما يتقدم
من بعيد ناحيتى .. نعم لقد
كان الشبح يقصدنى ..لم أرى
وجهه فى الظلام .. فتنحيت
للخلف خوفا من القادم
المجهول .. وترقبت اقترابه
شيئا فشيئا علنى أعرف
مبتغاه منى .. وفجأة أضاء
وجهه دون تفسير .. فتجلت
ملامحه أمامى .. يالها من
مفاجأة صادمة .. انه أخى
الشهيد ( راضى ) .. نعم هو أخى
الفقيد .. كم كنت أشتاق لرؤياه
بعد أن قتلنى فراقه .. يا
لأخى المسكين .. كم كنت ضحية
أخرى لهذا الأب الغادر
.. وتذكرت على الفور اليوم
المشئوم .. يوم ذهب أخى فى
الصباح الى عمله المعتاد
كعامل بسيط فى احدى الشركات
الخاصة .. ولكنه فى نهاية
اليوم لم يعد فى موعده
المنتظر .. وانتظرناه طويلا
ولم يعد .. ولم يأتى .. ومرت
أيام كثيرة .. قبل أن تصلنا
اخبارية من القسم بالعثور
عليه غريقا .. ضمن ضحابا
احدى سفن الهجرة الغير
شرعية .. لم نكن نعلم شيئا
عما كان يضمره فى نفسه
( راضى ) من هجرة وسفر .. و منذ
فراقه لنا طوال الخمسة
أعوام الماضية .. ظل السؤال
فى عقلى طويلا بلا اجابة
.. لما فعل ( راضى ) هذا ؟؟ .. تذكرت
كل هذا حين وجدته أمامى
بوجهه المحبب الى قلبى
.. بعينيه الضيقتين .. وملامحه
الحادة الصارمة .. فكم كان
هذا الغاضب يمتلك قلبا
رقيقا يملؤه حب وحنان
لأسرته.. نظرت اليه فوجدته
مبتسما مع نظرة حزن وأسى
تملأ عينيه الضيقتين
.. فهرولت اليه أحتضنه .. فأمسكت
لا شئ .. فلقد كان شبحا لا
يلمس .. توقفت فى زهول .. فى
صمت تام .. حين همس ( راضى
) بصوت متقطع:
- ازيك يا مصطفى ..
- ( راضى ) .. انت وحشتنى يا خويا
.. ازيك .. انت عامل ايه دلوقتى؟؟
- أنا فى مكان كويس ما تقلقش
يا خويا .. ع الأقل أحسن بكتير
من اللى كنت فيه عندكم.
- يعنى انت مبسوط هناك يا
راضى؟؟
- كتير يا مصطفى .. ربنا كان
عارف نيتى .. وجزانى بيها
بأكتر مما أستحق كمان.
- لكن .. ليه عملت كده يا راضى؟؟
- طب كنت حأعمل ايه يابن
أبويا؟؟ .. وأنا شايفكم
حتموتوا م الجوع وحتفشلوا
فى دراستكم .. وأبوكم خالع
نفسه من أى مسئولية .. كان
لازم أدور على أى طريقة
عشان أنقذكم بيها .. ماتنساش
أنى كنت أخوكم الكبير
.. وفى فترة غياب أبوكم ..
المفروض انى كنت بداله
وأتحمل مسئوليتكم.
- لكن ليه ماقولتش؟؟
- أقول ايه ولمين .. الموضوع
كان مشكوك فى نجاحه .. وأمك
ماكانتش حاتوافق .. كان
لازم الأمور تمشى بالشكل
ده .. كان لازم أعمل كده.
- لكن دى كانت صدمة جامدة
قوى علينا وبالذات علي
ماما يا راضى.
- أمر الله .. وربنا يصبرها
على كل اللى بيجرالها.
- منه لله بابا .. هو السبب
فى كل ده.
- ماتدعيش عليه يا مصطفى
.. أنا رغم كل ده سامحته.
- سامحته ؟؟ ( مندهشا ) ..
- أيوة .. كفاية انه أبويا
وأبوك .. ولازم برضه كلنا
نسامحه ..
- انت بالذات اللى بتقول
كده يا راضى ؟؟
- بقولك أيوة .. ثم أكمل فى
هدؤ:
- دى حتى ماما كمان سامحته.
- ماما!! .. مش ممكن .. طب وانت
عرفت ازاى ؟؟
- ده كلام برضه يا مصطفى
( ساخرا ) ..
ثم استدار قائلا:
- خد بالك من اخواتك يا مصطفى
.. دول مالهومش غيرك دلوقتى
.. وسامح أبوك يا مصطفى ..
سامح أبوك يا مصطفى ..
وظل يكررها حتى اختفى
فى الظلام .. وأنا أتابعه
بنظرى فى زهول واندهاش
.. قبل أن تطول مسامعى أصوات
مزعجة .. غير معروفة المصدر.
عمى كامل
استفقت من أحلام سباتى
العميق على دقات باب المنزل
المتعالية والمتوالية..
ففركت عينى كى أعود بخلدى
الى الواقع لأعى ما يحدث
.. وكنت لا أزال تحت تأثير
كلمات شبح ( راضى ) فى الحلم:
- سامح أبوك يا مصطفى ..
وسرعان ما تعالت صرخات
صاختة من الشخص القادم
وهو يرمى أختى ( نبيلة ) بأقظع
الألفاظ و السباب:
- انتى ما فيش فيكى فايدة
كام مرة أقول الشباك ده
لأ .. هى دى التربية اللى
رباك عليها أبوكى المسكين
المريض.؟؟ !!!!
ارتسمت على وجهى ابتسامة
صفراء حين سمعت تعليق
( عمى ) الأخيرعن أبى المسكين
.. وبخاصة ملحوظته اللافتة
عن كيفية تربيته لأختى
.. نعم كان القادم الصارخ
هو عمى كامل .. الأخ الأصغر
لأبى .. صف ضابط متقاعد بالجيش
, كان ضعيف الشخصية دائما
أمام أخيه الأكبر , لايقوى
على مراجعته فى أى قرار
أو أمر .. حتى زواجه كان ضمن
قائمة الأوامر التى لاترد
, لم نكد نراه بيننا قبل
مرض أبى الأخير .. لا أعرف
السبب هل كان كرها فى أبى
.. أم كان خوفا منه .. على كل
حال هوالآن بيننا بصفة
شبه يوميه .. يحاول أن يأخذ
مكان لطالما حلم أن يتبوأه
فى غياب من كان يخشاه .. وانتابتنى
نوبة كسل فلم أرد أن أشارك
فى تلك المسرحية شبه اليومية
حين اكتملت فصولها بوصول
أخى الأكبر ( على ) ليتلقفه
عمى كامل بكلمات التأنيب
المعتادة:
- انت فينك يا عم الشيخ؟؟
.. سايب انت البيت وسارح
وسايب الملعونة دى تركبنا
العار والفضيحة....
- هو فيه ايه بس ياعمى هداك
الله؟؟
- يعنى مش عارف؟
- لأ.. وعزة جلال الله .
- الشباك يا خويا .. الشباك
يابو دقن ..
- تانى يا نبيلة .. انتى مافيش
فيكى فايدة .. كام مرة أقولك
اتقى الله فينا .. يعنى أعمل
ايه فيكى دلوقتى ؟؟
ردت نبيلة بصوت ضعيف باكى
:
- يا على والله انا كنت بأفرج
عن نفسى شوية من ورا الشيش
وما حدش بيشوفنى .. يعنى
أعمل ايه فى الزهق والملل
اللى أنا عايشة فيه ده؟
- برضه لأ .. يمكن فعلا ماحدش
بيشوفك .. لكن انتى بتشوفى
.. حرام عليكى يا ختى .. ربنا
يهديك ويريحنا من مشاكلك
فى بيت ابن الحلال.
- ماشى يا على .. بس انت ادعيلى
ربنا يفك عقدتى ياخويا
يا حبيبى
- أهو كدة .. ياللا روحى ساعدى
أمك تحضرى الغدا عشان
عمك حيشاركنا الغدا النهاردة
.. وهمس لنفسه بصوت خافت:
- زى كل يوم يعنى , وقبل أن
يلتفت له عمه ويلاحظ ايماءاته
نظر اليه وقال:
- معلش ياعمى .. بنت صغيرة
, والبركة فيك انت حمايتنا
وربنا هو الستار.. ياللا
ناكل.
- يا على يابنى .. انتم أولادى
.. وكمان الواد ياسر واحد
شافه امبارح فى القلعة
مع ناس مش ولابد وبيعمل
حاجات وحشة قوى .. انت ناوى
تعمل معاه ايه؟؟
- ولا حاجة .. الهادى هو الله
يا عمى .. سيبها على الله
هو يدبرها بمعرفته.
- ونعم بالله!!! .....
ترامت الى مسامعى فصول
تلك المسرحية وأنا فى
فراشى لم أحرك ساكنا .. ولما
أفعل والقصة متكررة دائما
.. وأبطالها كل يلعب دور
هو غير أهل له .. وفبل أن أسترسل
فى تحليلاتى تنبهت على
وخزة خفيفة على كتفى فاستدرت
لأجدها أمى الصامتة تحاول
ايقاظى لتناول الغذاء
اعتقادا منها أننى قد
أكون لازلت نائما وسط
هذا الضجيج .. فقبلت يدها
وهببت من الفراش لأشارك
الباقين الطعام, فوجهت
التحية لعمى ليرد عليها
بفتور معتاد , وجلست بجوار
نبيلة على مائدة الطعام
العتيقة.. حين توجهت نبيلة
بالكلام الى قائلة:
- بالحق يا مصطفى .. الراجل
صاحب البيت المعلم عطوة
خبط علينا النهاردة الصبح
وقال انه عاوزك فى موضوع
كده .. ولما عرف ان مافيش
حد فى البيت قال انه حييجى
تانى المغرب.
- بس أنا كنت خارج النهاردة
بعد الضهر .. ماينفعش تقابله
انت يا على؟؟.
- لا يا مصطفى ده راجل شكله
كده والله أعلم مش مضبوط
.. وأنا مش بأطيق ريحته ..
كمان بتقولك المغرب يعنى
أنا حأكون بأصلى فى الجامع.
- طيب يا مصطفى .. أنا حأتصرف
, وارتسمت على قسمات وجهى
لمحات من الحزن , لتلاحقنى
نبيلة بصوت هامس يحوى
الكثير من الخبث:
- معلش يادرش .. بلاش كافتيريا
( عصافير الجنة) النهاردة..
فتتبدل قسمات الحزن بمشاعر
الحرج .. فما كان منى الا
وخزة من طرف قدمى الى ساقها
القريبة منى ، لتكمل كلامها
وسط صرخة مكتومة .. وبسخرية:
- قصدى تتعوض يعنى ......
فلاحقتها بنظراتى ولم
أرد.. حتى لايتشكك الآخرون
فيما قد يحتويه هذا الحديث
الهامس المحرج بينى وبين
الشيطانة الصغيرة نبيلة.
المعلم عطوة
كانت الساعة تقارب السابعة
حين بدأت فى التأهب لاستقبال
هذا الضيف الاجبارى , فكم
كانت قاسية على قلبى ردود
ليلى الحزينة حين هاتفتها
لأخبرها بضرورة تأجيل
لقاء اليوم الى الغد لظروف
عائلية طارئة .. وكم آلمنى
بعض كلمات الشك فى مصداقيتى
.. لكن أملى فى لقاء الغد
أن يجلى الصورة ويصلح
ما فعله بى المعلم عطوة..
وكأنه كان يدرى ما بخاطرى
.. ففور أن قفذت سيرته الى
ذهنى .. تعالت دقاته على
باب المنزل فهببت لاستقباله:
- أهلا يا حج عطوة..
- أهلا يا مصطفى .. ربنا يسمع
منك ونزور البيت.
- جماعة ان شاء الله يا معلم
مصطفى .. اتفضل .. هنا على
الكنبة دى .. يا نبيلة الشاى
بسرعة.
- مافيش داعى .. أنا بصراحة
جاى فى موضوع .. ياريت تسمعه
منى وبعدين تفنطه مع اخواتك
وترد على بعدين
- خير يا معلم
- انت عارف ان البيت بتاعى
ده قديم وآيل للسقوط وبتوع
الازالة كتير جوللى عشان
الموضوع ده وأنا غلبت
معاهم فلوس ورشاوى مافيش
فايدة .. ما انت عارف انت
واخواتك غاليين على أد
ايه وأنا مايرضينيش بهدلتكم
.
- ربنا يديم المعروف يا
معلم.
- لكن من يومين جالى واحد
مقاول كبير قوى وطلب منى
أرض البيت عشان يعمل مكانه
مجمع سكنى كبير .. يعنى المسألة
فيها مصلحة كبيرة وخير
جاى يا خويا مصطفى .. طب انت
لو مكانى تعمل ايه؟
- والله مش عارف يا معلم.
- انا ممكن أشوفكم بقرشين
تقدروا بيها تاخدوا شقة
فى أى مكان تانى والكل
يستنفع
- لكن يا معلم انت عارف الشقق
غالية قوى اليومين دول.
- أهو تاخدوا أى حاجة على
قدكم كدة يعنى..
- ازاى على قدنا .. ده كلام
يامعلم
- ماتنساش يا مصطفى انتم
مجرد مستأجرين والبيت
آيل للسقوط .. يعنى ممكن
من بكرة لو أنا عاوز ..و للا
بلاش .. وكمان متنساش أبوك
اللى أنا كنت مأجره المطرح
تقريبا يعنى بيودع.
- با معلم .. عاوز أفكرك ان
البيت ده كان بتاعنا أصلا.
- كان يا درش كان ( متهكما
) .. وان كنت ناسى أفكرك .. ابوك
من سبع سنين باعهولى بورق
رسمى لما كان مزنوق فى
قرشين ..
- عارف يا معلم عارف .. ثم
أكملت لنفسى بصوت خافت:
- ماهو باع كل حاجة عشان
مزاجه.
- وأنا عشان الجيرة والعيش
والملح .. وافقت يوم ما باعهولى
على طلبه انى أكتب لكم
ورقة ايجار .. يعنى ده جزائى
يعنى؟؟ ....
- لأ يا سيدى ( مستنكرا ) .. لكن
فاكر انت اشتريته منه
بكام؟؟.....
- مافيش داعى للكلام ده
يا مصطفى ..
- ازاى بقى يا عطوة ( منفعلا
) .. ما انت واحنا عارفين انك
أخدته بتراب الفلوس .. وعشان
كده وافقت بسرعة على شرط
بابا بأنك تكتب ورقة ايجار
قبل ما تشتريه .. يعنى مافيش
جمايل ولا عيش وملح يا
... .. يا معلم .. مش كده وللا ايه؟؟
..
- شوف يا درش ( متحديا ) ده
شئ ما يخصنيش .. بين البايع
والشارى يفتح الله .. ثم
أكمل وهو ينظر نحو باب
المطبخ حين لمح نبيلة
تقف خلفه متصنتة:
- بص يا مصطفى ( متلطفا ) .. احنا
عشرة عمر .. وانتم غاليين
عليا قوى .. خد وادى فى الكلام
مع اخواتك وأمك .. ثم أطلق
تنهيدة قصيرة قبل أن يكمل
بصوت حانى:
- واللى فيه الخير يقدمه
ربنا ....
انتابتنى نوبة غضب عارمة
حين لاحظت ما يفعله عطوة
.. فهببت من مكانى واقفا..
وقد اتخذت قرارى فى هذه
اللحظة أن أطرده خارج
المنزل, حين صرخت فى وجهه
بنبرة حاسمة :
- كفاية كده يا معلم .. أنا
حأتشاور مع اخوتى وحأرد
عليك.
- ماشى يا درش ماشى ..
ثم اعتدل قليلا فى جلسته
.. ببرود يحسد عليه .. دون
أن يلتفت لثورتى .... ثم بدهاء
الخنزير .. راح يعبث فى جيب
جلبابه الفضفاض .. هذا الجلباب
الأسود كوجهه الكالح
.. وقد ضاق بجثته السمينة
وبطنه المنتفخة المتدلية
كجوال التبن أمامه .. ولم
يستغرق الوغد وقتا طويلا
، حتى عثر على لفافة الطابوق
التى كان يبحث عنها وسط
تضاريس جسده المترامية
الأطراف .. ومالبث أن بدأ
فى اشعالها .. وراح ينفث
دخانها فى وجهى دون أن
ينبس ببنت شفه .. كنت فى هذه
اللحظة قد وصلت لقمة غضبى
.. وتمنيت لو أن عندى ما يكفى
من الشجاعة كى ألكمه فى
أنفه الغليظة لكمة قوية
تطيح بها وبصاحبها السمج
خارج المنزل الآن .. لكن
هذا الداهية المحنك راح
يكمل ألاعيبه القذرة
لافشال محاولاتى المستميتة
فى طرده .. حين تابع متسائلا
بخبث:
- طب والشاى؟؟
حاولت أن أكظم غيظى من
هذا الحيوان المنتفخ
الأوداج .. فهدأت من روعى
.. وناديت بصوت عالى:
- فين الشاى يا جماعة .. ثم
نظرت لعطوة وكأنى أبلغه
رسالة قد يفهمها:
- المعلم عطوة مستعجل وعايز
يمشى .....
فى هذه اللحظة دخلت نبيلة
بالشاى لتقدمه لعطوة
.. فرمقها بنظراته الشهوانية
.. وتابع قائلا:
- يا مصطفى أنا مش عاوزك
تزعل منى .. انتم بس فكروا
فى الموضوع .. ثم أكمل وهو
يلاحق نبيلة بنظراته
الجائعة:
- ان شاء الله يكون فيه مليون
حل يرضى الكل .. انت بس ابقى
رد على ...
ولاحظت للمرة الثانية
نظرات عطوة لأختى نبيلة
فنهرتها لتخرج .. ثم التفت
لعطوة وقد تملك الغيظ
منى .. قبل أن أتصنع الهدؤ
لأرد قائلا:
- ربنا يعمل اللى فيه الخير
يا معلم .. بس كمل انت الشاى
بتاعك.
ثورة فى القهوة
كانت قهوة ( الحرية ) تكاد
أن تكون خاوية من مرتاديها..
فى ظهيرة هذا اليوم شديد
البرودة .. وكعادتهم وفى
ركنهم المفضل كان قد التأم
شمل مجموعة الشباب الثائر
بقيادة ناصر حين انضمت
اليهم رضوى متأخرة عن
موعد الاجتماع على غير
عادتها , فلاحقها ناصر
بنظرات كلها فضول .. قبل
أن يتبعها بكلماته المتسائلة:
- خير يا رضوى ؟؟
- أبدا يا ناصر .. برضه ( صفوت
نظمى )..
- تانى .. طب وعملتى ايه؟
- أبدا اضطريت أروح عند
نادية صاحبتى فى المهندسين
ولما زهق ومشى جيت.
- ياترى بيعمل كده ليه ؟؟
- مش عارفة خايفة يكون عارف
حاجة.
فيتداخل فهمى فى الحديث
قائلا:
- أنا قلتلكم قبل كده بلاش
رضوى تكون معانا .. ابن خالتها
مش حيسيبها ولا حيسيبنا
فى حالنا.
- بس يا فهمى .. كلنا عارفين
ان صفوت ده راجل متطفل
ومفروض عليها .. وحكاية
انه ضابط فى المباحث ده
موضوع تانى مالهوش دعوة.
- أنا لازم أقول لبابا عشان
يخليه يقف عند حده.
- لأ يا رضوى كده ممكن تستفذيه
أكتر .. انتى تتجاهليه تماما..
لغاية مانشوف حل نبعده
بيه عن طريقك وطريقنا,
نرجع لموضوعنا بقى .. احنا
لازم نرتب موضوع اجتماع
النهاردة صح .. مش عاوزين
أى غلطة .. خصوصا ان الاستاذ
( غانم ) حيكون موجود.
فيرد سامح قائلا:
- بصراحة الأستاذ ( غانم
) أنا شايف انه مش حيفيدنا
فى المرحلة دى .. احنا اتسرعنا
لما ضميناه معانا.
فيرد فهمى: ليه يا سامح
؟؟.. ده راجل مضبوط .. وأفكاره
حرة وسديدة.
- انت شايف كدة .. لكن أنا
شايفه رجل بتاع منظرة
وبميت رأى.
- يلاحقهم ناصر متداخلا
فى الحديث:
- ياجماعة بلاش حديث التشكيك
ده .. خللونا نشوف مسئولياتنا
أهم..
يتدخل ابراهيم بهدؤ وهو
ينظر الى ( منى ) الصامتة
قائلا: طبعا يا ناصر ما
انت كنت صاحب الرأى فى
انضمامه.
فيجيبه ناصر منفعلا: جرى
ايه ياجماعة .. احنا حنستمر
فى مسألة التخوين دى كتير
.. يا فهمى يا سامح يا ابراهيم
وانتى يا رضوى ويا منى
ان كنتم معترضين على قيادتى
ليكم أنا ممكن أنسحب.
فيرد ابراهيم بهدؤ: لو
انت مش حاسس انك أدها ياللا
اعملها.
- كده؟؟ .. طيب أنا ماشى ..
- تلاحقه رضوى قبل أن يهم
خارجا وهى تصيح: فيه ايه
يا ناس انتوا هتهدوا كل
اللى عملناه .. بلاش كده
.. دى ثورة بدون معنى وفى
غير مكانها.
وكأن كلمات رضوى قد ردت
اليه عقله فبدأ ناصر يهدأ
و من ثم عاد ليجلس على مقعده,
وتمتم بكلمات مقتضبة:
- آسف ياجماعة على انفعالى
.. طبعا كل واحد حر فى رأيه
.. لكن احنا عندنا هدف وهو
ده الأهم من الأشخاص .. ياريت
بعد كده القرار يكون بالتصويت
.. ايه رأيكم؟؟
فيرد سامح محاولا أن يلملم
الخلاف: فكرة كويسة .. ايه
رأيك يا قهمى؟؟
- ماشى .. وطبعا لو ده رأيك
يبقى ابراهيم موافق عليه
.. مش كدهيا يا هيمه؟؟
لم يرد ابراهيم على تساؤله
واكتفى بمتابعة ابتسامة
( منى ) التى حافظت على صمتها
رغم ركلات رضوى لها خلسة
علها تدلى يرأيها هذه
المرة دون جدوى .. فعادت
رضوى لتقول متسائلة:
- تمام كده ياجماعة .. ايه
صافى يالبن؟؟
ويبتسم الجميع قبل أن
يهم فهمى كعادته بدفع
الحساب لينصرف الجميع
الى حيث مقر اجتماعهم
المرتقب.
من أول السطر
كانت نسمات الصباح الباكر
قد بدأت تفوح فى أجواء
المكان .. مع ظهور خيوط أول
شعاع ضوء لهذا النهار
.. حين تسلل هذا الشعاع ..
ليتساقظ على كأس زجاجى
فارغ كان لايزال فى يد
( ياسر ) الغارق فى سباته
العميق قبل أن ينعكس شعاع
الضوء من الكأس صوب عينه
اليسرى .. وكأنه جاء ليوقظه
قبل فوات الأوان ..
حين استفاق ياسر من غيبوبته
قليلا .. كان زائغ العينين
,, فاقد التركيز .. حاول النهوض
فلم تسعفه قدماه .. لكنه
استجمع قواه وهب واقفا
.. مترنحا , لينظر فى ساعته
.. ثم يصيح:
- يا خبر أبيض الساعة ستة
.. اروح البيت ازاى دلوقتى
.. وحاأقول لهم كنت فين ..
ثم أكمل صارخا وهو حالة
من فى الرعب والخوف:
- اصحى يا جميل .. يا حسنى
.. يا أسامة ، يا جماعة اصحوا
شوفولى حل..
فتح حسنى عينيه بصعوبة
وقال له:
- فيه ايه يا أخى انت كل مرة
تعمل الهليلة دى .. بسيطة
زى كل مرة أبو جميل أو أسامة
أو حتى أبويا مات وانت
كنت بتعزى ...
- عملتها فبل كدة .. ومادخلتش
عليهم.
- خلاص كنت بتذاكر ..
- يا سلام بدون كتب ومذكرات
.. وكمان هما فاقسينى فى
الحتة دى كمان.
- ماعرفش بقى شوف خلاصك
بمعرفتك .. وأغمض عينيه
وراح فى غيبوبته.
صاح فيهم ياسر قائلا:
كده برضه ياجماعة .. مش انتوا
اللى شورتوا عليا بالسطر
المهبب الأخير .. ما هو ده
اللى جابلى الكافية .. الحقونى
يا خوانا ..
يرد أسامة من أسفل قدمى
جميل الذى كان يعزف كعادته
سيمفونية غيبوبته اليومية
..حين قال له بصوت ناعس:
- قول عملت حادثة بالعربية..
- أى عربية .. هو أنا حيلتى
اللضا ..
- يا أخى عربيتى أنا..
- دى مصيبة أكبر لو عرفوا
انى لسة با أعرفك
- يا أخى انت غلبتنى وضيعت
الدماغ بتاعة امبارح
..
ثم أكمل وهو يدس رأسه فى
مكانها الأول :
- اصطفل مع نفسك وسينى أنام.
- كده برضه يا جماعة .. على
كل حال انتم عندكم حق .. ما
فيش أعذار .. هما عارفين
كل حادة ..
وكأن ما توصل اليه أخيرا
قد راقه فاستمر يحدث نفسه:
- يبقى مافيش داعى للحجج
.. بلاش سربعة , ثم التفت الى
الطاولة الصغيرة التى
فى ركن الحجرة ونظر الى
كومة صغيرة من المسحوق
الأبيض فوقها .. قبل أن يندفع
تجاهها .. وهو يهتف صارخا
:
- ويبقى ياللا تانى .. من أول
السطر .......
أهل الرحمة
اختتم الامام صلاة الفجر
قبل أن يلتفت لمن خلفه
داعيا الله بكل ما جال
بخاطره من دعاء .. وردد الجمع
خلفه ما يقول ، قبل أن يهمٍس
( على ) لرفيقه ( عمار ) قائلا:
- يا عمار هو الشيخ ده مش
حياخد جنب بقى .. انت عارف
انه معاهم ومافيش فايدة
منه.
- عندك حق لكن نعمل ايه ..
اللى ساندينه جامدين
واحنا مش قدهم .. اصبر وما
صبرك اللا بالله.
- ونعم بالله .. ياترى باقى
الأخوة جايين فى نفس المكان
وللا فيه تغيير.
- لأ .. زى كل مرة ماعدا يونس
ماأنت عارف انه اتقبض
عليه امبارح.
- غدر والله .. لكن مسيرنا
نعرف المستخبى.
- لا عليك يا أخى .. البركة
فى الاخوة .. والنهاية قربت
.. هيا بنا.
وهب الاثنان ليغادرا
المسجد .. فارتديا نعالهما
.. وقبل أن تبدأ مسيرتهما
راحا يتجولان بنظراتهما
عبر المكان من باب الحيطة
والحرص .. ثم استقبلا الطريق
سيرا على الأقدام .. قبل
أن يصلا الى هذا المنزل
القديم ذو البدروم شبه
المظلم فى هذه الحارة
الضيقة النائية فى أحد
أطراف الحى .. فطرق ( على )
باب البدروم طرقتين متتاليتين
كما هو متفق عليه ، ليفتح
الباب شاب طويا ذو لحية
شعثاء.. حليق الشارب ويرتدى
جلباب أبيض قصير .. قبل أن
يستقبلهم بصوت هامس حذر:
- أهلا ياجماعة .. أنا وعوض
كنا فى انتظاركم.
- ماشى يا شردى .. فيه جديد
عن يونس؟؟
ليأتى صوت خشن من بعيد
مجيبا:
- لأ لسه .. بس وعزة جلال الله
ده كان ملعوب .. وفيه حد وراه.
فيرد على بهدؤ:
- اهدأ يا عوض .. ان شاء الله
ربنا حيكشف المستخبى.
.. المهم ايه الترتيب دلوقتى.
- عملية محل الفيديو اياه
.. انا وانت وشردى حنشغل
صاحب المحل .. عشان ندى عمار
( حسب طلبه ) الفرصة يولع
فيه .. واللا ايه يا عمار.
- طبعا دى فرصتى عشان أحرق
قلبه وأنتقم لآبويا.
فيرد عوض قائلا:
- انت لسة مانسيتش انه أخد
حق أبوك فى المحل واتسبب
فى موته.
- طبعا .. وأنسى ازاى
ليلاحقهم ( على ) بقوله:
- لا ياجماعة .. كده مش مضبوط
.. احنا بنعمل ده لوجه الله
عشان نكف الأذى .. مش لأسباب
شخصية.
فيلاحقه شردى مؤكدا:
- صح يا على .. عندك حق , كدة
غلط يا جماعة.
فيرد عمار بنبرة نادمة:
- عندكم حق يا جماعة .. انا
آسف ممكن حد تانى ياخد
مكانى .. استغفر الله العظيم
.. ده كان الشيطان سامحونى.
فيرد ( على ) قائلا:
- خلاص يبقى انت تبعد عن
العملية دى خالص .. عشان
تبعد الشبهه عنك .. وشردى
يبقى ياخد مكانك.
- لكن ..
- خلاص يا عمار .. كده صح .. يا
للا بينا نروح دلوقتى
.. ونتقابل الساعة تسعة
عند مطعم عجمية .. ياللا
يا عمار .. السلام عليكم
يا جماعة.
- وعليكم السلام.
وخرج الصديقان مسرعين
عائدين الى منازلهم قبل
أن يلفت انتباههم جمع
من الناس صاح أحدهم حين
رأى ( على ) قائلا:
- يا أخ ( على ) الحق أخوك ياسر
.. كان ماشى ووقع من طوله.
فركض على نحو أخيه وراح
يتحسس وجهه بيداه المرتعشتان
قبل أن يحمله بمساعدة
عمار ليدخل به احدى الصيدليات
القريبة من المكان عله
يجد من يسعفه, ولم تمضى
دقائق حتى أفلح طبيب الصيدلية
فى اعادته لوعيه جزئيا
.. عندها التفت الطبيب الى
( على ) وقال بلهجة مترددة:
- يا جماعة .. الموضوع ده مش
طبيعى .. أنا بصراحة شاكك
فى .. شوفوا بقى أنا أنصحكم
تعرضوه على دكتور متخصص
فى الادمان .. بصراحة أنا
شاكك .. أنا شاكك انه يكون
واخد حاجة كدة وللا كدة.
رد ( على ) على الطبيب بنبرة
منفعلة:
- انت بتقول ايه يا دكتور
.. على كل حال شكرا .. ياللا
يا عمار.
وحمل ( على ) أخيه عائدا للمنزل
قى حالة من الزهول التام
.. فمهما كان يدور بخلده
من أفكار حول حال أخيه
من استهتار أو لامبالاة..
و لكن الى هذا الحد .. ولمعت
عيناه بعبرات كانت تزاحم
جفونها كى تطل لتتقاطر
على وجنتيه .. والتهبت مشاعره
أكثر وسط محاولة عمار
اليائسة فى مواساته .. لكن
الحزن كان قد استبد به
حتى أنه لم يشعر يالتعب
من ثقل ما يحمله رغم طول
المسافة .. وفجأة صاح ( على
) منتحبا:
- رحماك يا الله .. رحماك يا
الله.
عصافير الجنة
كانت لحظات من السعادة
القليلة فى حياتى . حين
رأت عيناى ليلى وهى تعبر
الشارع مقتربة من مكاننا
المعتاد على ضفاف النيل
.. فكم كان الشوق يقتلنى
بعد ضياع فرصة الموعد
الأخير .. ولا يكاد شعور
بالقلق يفارقنى من احتمالية
غضب شك ليلى فى نواياى
أو غضبها منى .. لكن ليكن
ما يكون .. المهم أن تقع عيناى
عليها وأتلمس أطراف أناملها
الرقيقة .. وتابعت الاحقها
بنظراتى وهى تقترب رويدا
رويدا .. ياللها من فتاه
رقيقة .. عميقة فى مشاعرها
.. حنونة .. فقط تلك العصبية
الذائدة أحيانا .. يالها
من أم وحبيبة .. أنا محظوظ
.. أنا ..
- وكمان سرحان ومش حاسس
بوصولى .. انا كنت عارفة
انك اتغيرت .. أنا غلطانة
انى طاوعت قلبى وجيت أسمعك
بعد عملة امبارح.
لم أنبس ببنت شفة .. فقط نظرت
اليها وتلقفت يداها الناعمتين
.. وألقمتها شفتاى فى حب
ولهفة.
- أيوة .. زى كل مرة عاوز تاكل
بعقلى حلاوة.
- مافيش أحلى من الحلاوة
اللى بين صوابعك دول.
- يا سلام يا خويا .. أمال
كنت بتاكل حلاوة فين امبارح.
- مع عطوة..
- مين؟؟
- قصدى المعلم عطوة .. صدقينى
والله دى الحقيقة وأنا
حا حأكيلك كل حاجة بس اهدى
شوية .. منك لله يا ( على ) .
- ماشى يا مصطفى .. مانت عارف
انى با حبك وانت متأكد
انى حا سامحك..
قبل أن تكمل بعصبية:
- لكن مش كل مرة .. خد بالك.
وقبل أن أبدأ فى سرد حجتى
.. تأتى الي مسامعى رنات
الهاتف قادمة من احدى
جيوب بنطالى فسارعت بالنظر
الى رقم المتصل لأجده
( على ) .. فحدثت نفسى متعجبا:
- غريبة ( على ) مش متعود يتصل
بى وخصوصا فى الوقت ده.
- فيه ايه يا مصطفى؟؟
- ده ( على ) بيتصل.
- طب رد عليه..
- ماشى .. آلو أيوة يا على
فيه ايه ؟؟ .. ايه؟؟ .. ياسر
.. يا حول الله .. انا جاى حالا..
ولم ألتفت لجليستى حيث
هببت من فورى واقفا ثم
مغادرا بأقصى ما أوتيت
من قوة .. وسط زهول ليلى التى
أخرستها مفاجأة ما يحدث
.. فظلت تلاحقنى بنظراتها
حتى ابتلعتنى احدى المركبات,
وهاهى المسكينة كما جاءت
غاضبة.. فها أنا الآن .. رغما
عنى .. ولسوء حظى وحظها ..
أعيد الكرة فأتركها وحيدة
.. شاردة .. يقتلها الفضول
والحزن .. بل والشك أيضا.
مشاكل عائلية
عندما وصلت الى المنزل
.. كان الوضع يبدو هادئا
على غير ماتوقعت .. فاندفعت
راكضا نحو حجرتنا باحثا
عن ياسر .. لأجده نائما فى
سكينة وهدؤ .. وقد كان ( على
) وعمى كامل واقفان على
باب الحجرة .. بينما جلست
نبيلة بجوار أخيها تمسح
وجهه بقطعة قماش مبللة
بالماء البارد , حين أخذ
بيدى ( على ) وتنحى بى جانبا
.. وقال فى نبرة هادئة حزينة:
- الحمد لله .. حصل خير .. جت
سليمة .. الدكتور لسه ماشى
وطمنا ..
- هو فيه ايه؟؟ .. طيب فهمنى.
- معلش يا مصطفى .. أنا آسف
أنا اللى اتسببت فى صدمتك
دى .. بس المفاجأة شلت تفكيرى
وخليتنى مش عارف أعمل
ايه.
- سيبك منى دلوقتى .. ايه الحكاية؟؟
- الدكتور قال جرعة ذائدة
من الهيروين لكن ربنا
ستر..
- ايه؟؟ ... هيروين!! .. هيروين!!
.. هيروين يا ياسر؟؟
- بالراحة يا مصطفى هو مش
حيسمعك دلوقتى .. الدكتور
قال انه حيفوق على الليل
ان شاء الله .
كبلت الصدمة لسانى .. لم
أقوى على التعليق .. فقط
ارتميت بجسدى على الأريكة
فى باحة المنزل .. قبل أن
أجول بنظراتى باحثا عن
أمى .. أين هى؟؟ .. اين تلك
المسكينة .. وماذا حل بها
الآن؟؟ , وهببت من فورى
صائحا:
- ماما .. ماما .. انتى فين؟؟
- امك تعبانة شوية فى حجرة
النوم بتاعتها .. خليها
ترتاح يا مصطفى .. بلاش تتعبها
دلوقتى.
لم أستمع الى نصيحة ( على
) .. ودلفت الى الحجرة كى اتفقد
ماذا حل بساكنتها.. كانت
الحجرة شبه مظلمة .. رائحة
الزمن تأتى من أثاثها
العتيق .. تخبر من يدخلها
عن ذكريات أليمة طالت
صاحبتها .. تلك التى أصرت
رغم شدة احتياجها على
الاحتفاظ بكل محتوياتها
دون سبب معلن .. وراحت تمضى
بها الليالى الطويلة
.. وحيدة .. تلجأ اليها طالبة
للعزلة .. كلما ضاقت بها
الدوائر ..
وكم كانت المفاجأة حين
وجدتها مستلقية على سريرها
متيقظة .. نعم هذه هى أمى
.. كيف ينام هذا القلب الكبير
وفلذة كبدها يصارع الموت
.. فقط هى الخلوة مع ملاذها
وملجأها تدعوه كعادتها
لينقذ ياسر .. يالها من امرأة
.. جلست بجوارها وربت على
رأسها بيدى لينتقل الى
جسدى احساس بالأمن والطمأنينة
.. فهدأت مشاعرى .. وألقيت
برأسى على كتفها طامعا
فى المزيد من هذه الروحانية
المهيبة .. ومرت لحظات من
السكون قبل أن تتصاعد
أصوات صراخ من خارج الغرفة
, انه ناصر فقد عاد على غير
عادته وبثورته المعتادة
كان رده قاسيا عندما علم
بما حدث , وهاهو يصرخ فى
الجميع متهما وساخطا:
- وكنتم فين لما ده كله حصل
.. وازاى الكلب ده يلوث سمعتنا
كده .. ده يستاهل الدبح
فتصرخ نبيلة فى أخيها
الثائر قائلة:
- جرى ايه يا ناصر .. بالراحة
شوية .. أخوك تعبان يا أخى.
- ربنا ياخده .. هو ده بييجى
من وراه خير أبدا ..
فيمسكه ( على ) من يديه محاولا
تهدئته .. قبل أن ينفعل العم
كامل أخيرا .. فينفجر فى
وجه ابن أخيه قائلا:
- انت يابنى مش تحترم الكبار
اللى قدامك .. اتلم شوية
.. وشوف نفسك قبل ماتتهم
الغير.
- يا صلاة النبى أحسن .. وآدى
عمى كامل دخل فى الموضوع
.. والنبى خليك على جنب انت
وخلليك فى حاللك.
- انت ولد قليل الأدب.
- ياعم دماغك .. انت فاكرنى
عسكرى فى الوحدة عندك
.. أيام ما كان عندك وحدة
..
ثم أكمل قى عصبية:
- وكمان ايه العطف اللى
نزل عليك ناحيتنا دلوقتى
.. كنت فين من زمان أيام ما
كنا صغيرين ومش لاقيين
العيش الحاف.
- اخرس يا ولد .. ورفع عصاه
محاولا ضربه بها .. قبل أن
يهب ( على ) ليمسك بعصى عمى
.. ويربت على كتفه لتهدئته
قائلا:
- لاحول ولا قوة الا بالله
.. اهدأ يا عمى .. كل ده مش وقته.
- ده ولد سليط اللسان ولازم
يتربى.
- معلش يا عمى انت كبيرنا
.. وهو مش فى وعيه دلوقتى
وان شاء الله.....
وقبل أن يكمل تأتيه رسالة
على تليفونه تذكره بموعدهم
المرتقب .. فيترك يد عمه
وقد انتابته حالة من الارتباك
اللحظى , قائلا:
- معلش يا جماعة .. أنا لازم
أمشى دلوقتى عشان صلاة
العشاء .. استهدوا بالله
كده.
فرد العم كامل:
- أنا جاى معاك يا على عشان
أصلى معاك ..
- لأ يا عمى .. أصل أنا حأصلى
فى مسجد بعيد شوية مع زملائى
( مرتبكا ) ..
ثم أكمل وهو يهرول خارجا
دون أن ينظر خلفه:
- ياللا ياجماعة .. أستودعكم
الله.
وخرج ( على) مسرعا .. ليتبعه
العم كامل بخطواته البطيئة
.. ويدخل ناصر الى الحجرة
ليجد ياسر فى الفراش فيرمقه
بنظرات حادة مالبثت أن
تبدلت بمشاعر من الشفقة
حتى تصاعدت الأحاسيس
فيرتعد من أفكار شيطانية
ذادت من خوفه على أخيه
.. فراح يحتضنه وقد أغرورقت
عيناه بالدموع .. ولم تضيع
نبيلة الوقت قبل أن تشاركه
حفلة البكاء على رأس أخيهما
الغارق فى سباته ..
كل هذا حدث وأنا لازلت
مستلقى برأسى على كتف
تلك الصبورة الصامتة
.. هل استجاب رب السماء لدعائها
فأنزل السكينة على من
فى المنزل .. فتبدلت المشاعر
.. وطغى الهدوء .. واستراح
قلبى لهذه الأفكار .. لكن
هل سيبقى الحال؟؟ .. ولكن
.. يا الاهى .. ليلى !! .. يالحظى
العاثر .. ماذا أقول لها؟؟
.. كيف أقنعها؟؟ .. كيف؟؟ ...
ولم أكمل فقد تزاحمت الأفكار
فى رأسى المتثاقل من التعب
والارهاق .. فاستسلمت الى
السبات فوق كتف أمى .. علها
تجد لى أنا أيضا حلا قريبا
فى دعاءها الدائم.
الحادثة
كانت الساعة تعلن بدقاتها
انتصاف الليل .. حين هب كل
من فى المنزل على صوت ضربات
قوية متتالية على باب
المنزل .. فأسرعت مترنحا
وقد كنت لا أزال مستلقيا
على كتف أمى .. وركضت بخطى
وثابة الى الباب لأرى
من الطارق فى هذا الوقت
المتأخر من الليل , وحين
فتحت كانت المفاجأة .. جمع
من ضباط الشرطة يندفعون
الى داخل المنزل .. حين صاح
قائدهم:
- فين ( على )؟؟ ..
- مين؟؟
- ( على ) أخوك .. ثم نظر الى معاونيه
وصرخ فيهم : ابحثوا عنه
فى كل مكان..
- لكن ليه يا حضرة الضابظ؟؟
- يعنى مش عارف؟؟
- لأ والله..
- انت حاتستعبط .. انت ما حسيتش
بالمصيبة اللى عملها
المحروس من شوية؟؟
- مصيبة ؟؟ .. لا والله أصل
احنا أخونا ياسر كان تعبان
.. و .. لكن مصيبة ايه أرجوك
فهمنى.
- البيه عامل تنظيم وفجروا
محل الفيديو فى الشارع
اللى وراكم .. انت متأكد
انك ما تعرفش حاجة ؟؟
- اتفضل حضرتك اتأكد بنفسك
.. أنا صحفى فى جريدة..
- با قولك ايه با أخويا ( مقاطعا
) .. أرجوك ماتخوفنيش بوظيفتك
.. أنا عارف كل حاجة .. وعلى
كل حال مش حاأقولك على
المفروض تعمله لو عرفت
مكان ( على ) يا جنابو .. ماشى
يا عم الصحفى ( بسخرية ) ..
ثم يلتفت لمعاونيه صارخا
بعصبية:
- ايه يابنى طبعا مالقيتوش
حاجة .. ماشى ياللا بينا
.. ماتنساش ياسعادة الصحفى.
- ان شاء الله مع السلامة
.. ودعتهم بتلك الكلمات
المقتضبة .. وزهول المفاجأة
تكاد تشل حركتى .. فألقيت
بجسدى على الأريكة .. حين
أندفعت نبيلة تجاهى باكية
.. والتزم ناصر الصمت .. قبل
أن يطل ياسر برأس مترنح
من باب الغرفة .. حيث قد كان
استفاق بعض الشئ من غيبوبته
على تلك الأصوات الصاخبة
.. قبل أن يهمهم بكلمات متلعثمة
شبه مفهومة تخرج من عقل
شارد .. وزهن مشوش حين تمتم
قائلا:
- عشان تعرفوا يا جماعة
قيمة الدماغ .. الدماغ بيخليك
فى الضياع .. بيطير بيك فوق
.. فوق .. معاه ما تفكرش فى
أى شئ ... عيش فى الضياع .. طير
فى الضياع .. نام فى الضياع
.. كله فى الضياع .. بس الضياع
.. ضياع .. ضياع , والتف بحسده
المتهاوى عائدا لفراشه.
تجولت بنظرى باحثا عن
أمى .. فوجدتها واقفة على
باب حجرتها .. وكعادتها
صامتة صامدة .. وعندما بدأت
كعادتها فى النظر الى
السماء .. توسمت انفراجة
قد تطل علينا فى الصباح.
زائر بلا موعد
لم نرى ( على ) منذ هذا اليوم
, ولم تصلنا عنه أى أخبار,
وكانت الأيام تمر ثقيلة
رتيبة .. فزياراتى التكليفية
لوالدى مازلت مواظبا
عليها .. وليلى لا ترد على
مكالماتى بعد أن أعلنت
القطيعة من جانب واحد
, والمعلم عطوة ما يلبث
أن يفتعل الأسباب لزيارتنا
دون أدنى اهتمام من جانبنا,
وناصر كعادته غائبا فى
أغلب الوقت وثائرا فى
أوقات حضوره النادر بالمنزل
, أما ياسر فقد تم اعلان
اقامته الجبرية فى المنزل
حتى انتهاء اختبارات
الثانوية العامة .. لكنه
مع هذا لايعدم أحيانا
الوسيلة فى مغاقلة نبيلة
فى غيابى ليخرج بالساعات
قبل أن يعود مترنحا .. يصحبه
الكثير من عبارات الأسف
وطلب العفو .. أما أمى فلا
جديد .. وكأننا نعيش فى تابلوه
ثابت لايتغير مهما تتابعت
الأحداث .. على الأقل من
ناحيتها.
دق باب المنزل حين ذهبت
نبيلة لترى من بالباب
, لأجد عطوة يقف محملقا
فيها .. فأسرعت منحيا لها
جانبا:
- خير يا معلم.
- كده برضه يا مصطفى .. يعنى
مارديتوش عليا .. والراجل
أكل وشى.
- ان شاء الله يا معلم .. بس
انت عارف الظروف.
- ماش يا مصطفى .. على كل حال
أنا مش جاى لنفسى دلوقتى
.. دى الست دى كانت بتدور
على عنوانكم .. فوصلتها
..ثم صاح مناديا:
- اتفضلى يا ست هانم .. هو
ده العنوان.
- ست مين يا معلم؟؟
- مش عارف .. هى تبقى تقولك
بقى.. ياللا سلام.
- وعليكم السلام .. أهلا يا
هانم ..
تفحصت المرأة بنظرى أثناء
وقوفها بالباب .. كانت امرأة
فى العقد الرابع من عمرها
.. ممتلئة القوام .. ترتدى
ملابس ذات ألوان زاهية
براقة .. تضع المساحيق على
وجهها لتخفى بعض التجاعيد
التى بدأت فى التكالب
على قسماته , ذات عينين
واسعتين تنضحان بالجرأة
رغم خفوت بريقها .. وفم بشفاه
غليظة لا يتوقف عن الحركة
بما يحويه من علكة تمضغها
بأسنان شبه بيضاء .. وقبل
أن أكمل جولتى التفحصية
فيما تبقى من جسدها .. عاودت
النظر الى وجهها أتأمله
علنى أعرف هذه الزائرة
الغامضة .. وتمعنت قليلا
فى تفاصيل وجهها .. هل ترانى
رأيتها من قبل؟؟ .. لا .. لا
.. بل نعم .. ربما هى .. نعم هى
تلك المرأة التى كانت
ترافق أبى فى احدى الحانات
عندما كان يغدق عليها
بأموال بخل بها على أسرته
الجائعة .. نعم انها هى ..
وقبل أن أسترسل فاجأتنى
الضيفة بالسؤال:
- انت ابن الأستاذ / فكرى
الكبير؟؟
- مش مهم كبير وللا صغير
.. ممكن أعرف انتى مين؟؟
- كده من ع الباب .. طيب قوللى
أدخل.
- ياست هانم احنا ظروفنا
وحشة .. أرجوك أنا عارفك
.. انا شفتك قبل كده مع أبويا
....
- لأ .. أوعى تكمل .. ده أنا مراته
على سنة الله ورسوله..
- مراته!!!
- أيوة مراته .. وعندى منه
رانيا ومجدى .. اخواتك يا
.. هو انت اسمك ايه؟؟
- مراته ازاى .. ده انتى ..
- وبعدين بقى .. روح لآبوك
واسأله.
- أرجوكى .. طيب انتى عاوزة
ايه دلوقتى.
- عايزاكم تلموا لحمكم
.. الراجل من يوم مادخل المستشفى
وأنا مش طايلة منه أى مليم
يصرف بيه على ولاده .. هما
مش لحمكم برضه ؟؟ تعالى
يا مجدى انت ورانيا .. ادخلوا
بيت أبوكم.
- ياستى الله يخليكى .. افهمى
.
- بص أنا فاهمة .. وانت ابقى
افهم على مهلك .. العيال
معاكم فى بيت أبوهم .. وأنا
انت طبعا عارف مكانى لو
عاونى .. باى.
تركت المرأة الأولاد
وغادرت دون أن تنتظر أى
رد منى .. فنظرت الى الأطفال
فوجدت وجوه بريئة لاتعى
ما يحدث .. قبل أن أجد يد تربت
على كتفى .. فالتفت لأجدها
أمى وعلى وجهها قسمات
الرضى بما قدره الله .. فتنحيت
لها جانبا ، لأجدها فى
هدؤ وصمت معتاد تمسك بأيدى
الطفلين وتدخل بهما الى
مطبخها الصغير لاعداد
ما قد يسد رمقهم من الطعام.
عريس بالصدفة
لم تفلح محاولاتى العديدة
فى اصلاح ما أفسدته الظروف
مع ليلى .. ورغم عرض ناصر
بالوساطة عن طريق زميلاته
فى الجامعة .. الا اننى لم
أود ادخال ناصر وشلته
الثائرة فى المشكلة.. فهم
غالبا لا يوجد لديهم سر
دفين فى قاموس تهاملاتهم
.. عندما طرأت فى ذهنى فكرة
عبقرية .. حين اقترحت على
أختى نبيلة الخروج الى
نزهه غير متوقعة ونادرة
الحدوث منى .. لكن المسكينة
من فرحتها لم تفكر كثيرا
.. فهرولت الى حجرتها الصغيرة
.. تلك الحجرة التى كانت
فى السابق مخصصة لاستقبال
الضيوف .. قبل أن تضطر أمى
فى واحدة من أزماتنا الكثيرة
لبيع معظم مقاعدها .. قبل
أن تستبدلهم بسرير معدنى
صغير .. كان يكفى لفصل الأخت
الصغيرة .. حين بدأت تتفتح
زهرات أنوثتها .. عن باقى
اخوتها الرجال ..
ولم تمضى دقائق حتى خرجت
نبيلة مرتدية أحلى ثيابها
.. وراحت تسابقنى الى الباب
قبل أن أترجع عن عرضى .. وللحق
ورغم نواياى الدفينة
.. لم أبخل على تلك المسكينة
.. فبذلت قصارى جهدى كى تمضى
أوقات سعيدة فى نزهتها
النادرة .. وبعد أن أخذت
نبيلة متعتها دلفت بها
الى مقر عمل ليلى .. وفى الطريق
صارحتها بخطتى أنها ستكون
شاهد البراءة فى قضيتى
مع ليلى .. وكم كانت المفاجأة
عنيفة على ليلى حين رأتنى
بمقر عملها ولم يكبل من
جموح عصبيتها المعهودة
الا رؤيتها لأختى نبيلة
برفقتى .. وبالفعل كانت
نبيلة من الذكاء الكافى
لتقنعها بالاستئذان والنزول
معنا فى نزهه قصيرة.. لكن
المشكلة فى المدير .. هل
يوافق . وبسذاجة منى اقترحت
أن تفعل نبيلة مع المدير
ما فعلته مع ليلى كسفيرة
اليوم فى الاقناع .. وقبل
أن أكتشف سذاجة اقتراحى
.. أفقت على نبيلة وهى مندفعة
تجاه غرفة المدير تنفيذا
لاقتراحى الغريب .. وياللعجب
فقد قابلها المدير بود
غير متوقع ووافق على طلبها
دون تفسير أو تبرير .. وبعد
دقائق عادت ليلى من حجرة
المدير بعد توقيعه على
طلب الاذن .. ومعها مفاجأة
قوية:
- الحق يا مصطفى .. المدير
طالب ايد نبيلة.
صعقتنا المفاجأة أنا
ونبيلة .. حتى أنها أنستنا
ما جئنا له أصلا .. لكن ليلى
بحكمتها حاولت أن تمتص
صدمتنا قائلة:
- ده النصيب يا درش .. مبروك
يا بلبل .. على فكرة ده راجل
كويس قوى .. ومبسوط جدا ..
والغريب انه كان مضرب
عن الزواج حتى عدة دقائق
من الآن .. سبحان الله.
وقتها فقط تذكرت أمى .. ودعواتها
الصامته .. الآن عرفت السبب
.. السبب فى مسبب الأسباب
.. سبحانه رب العباد.
مقابلة أسرية
عرف سامى .. بكل أمور حياتنا
.. وفى الحقيقة لم يؤثر هذا
على موقف الرجل .. الذى بقى
على اصراره فى الارتباط
بنبيلة .. وكان لقاء التعارف
.. وجلس الجمع بباحة المنزل
.. ولم يعطى الرجل لنبيلة
الفرصة من أن يعتريها
أى احساس بالاحراج من
شدة تواضع المنزل فقال
الها بصوت مسموع:
- ده انتم ناس مريشين قوى..
ده بيتكم ده أحسن بكتير
من الأوضة اللى كنت عايش
فيها أيام الدراسة .. لآ
انتم كده فى مستوى فوق
مستواى..
ضحكنا .. وضحكت نبيلة من
قفشة سامى الذكية .. فلقد
أزاحت كلماته القليلة
الكثير من العبء عن كاهلها
المثقل بالهموم .. ونظرت
أنا الى الرجل فوجدته
انسان جاد ولماح .. يعطيك
احساس بالاحترام والثقة
.. ورغم طغيان ملامح شخصيته
الجادة على هيئته الوقورة
.. الا أنه يتحلى بروح من
الدعابة المقننة يتفنن
فى ابرازها فى وقتها .. ذو
عيناه تنضح بالذكاء الفطرى
.. بسيط فى ملبسه وتصرفاته
رغم قدرته المادية .. يمتلك
حضور طاغى امتلك به قلوب
كل الحضور ..
ثم التفت الى أمى فوجدتها
فى لحظات نادرة مبتسمة
.. ولكنها لاتزال على صمتها
.. وقبل أن ألتفت عنها رأيتها
تنظر الى الصور المعلقة
على الحائط والدموع تقطر
من عينيها .. قبل أن تنظر
الى السماء وشفتاها تنبس
بكلمات الشكر لصاحب الفضل.
انفض الجمع بعض اتفاق
لم يمضى وقت طويل أو جهد
يذكر فى ابرامه .. وانصرف
سامى .. وغادرعمى كامل .. وأيضا
غادرت ليلى بعد أن أوصلتها
لأقرب مكان من اقامتها
.. وقد كانت فرصة لاعادة
المياه لمجاريها قبل
أن تنفعل فى وجههى كعادتها
قائلة:
- ماهو كله منك .. انت اللى
ما عرفتش تتصرف صح.
- ماشى .. عقبالنا.
فأزاحت عينيها عنى وقالت
فى خجل : أنا اتأخرت .. ياللا
مع السلامة .. وابقى كلمنى
بكرة.
فرددت عليها بسعادة بقبلة
معتادة على يديها.
عند عودتى التقيت المعلم
عطوة على باب المنزل الخارجى
.. كان الرجل متجهما .. قسمات
الغضب تعلو وجهه المقفهر
فزادته قبحا على قبحه
.. حين هب الرجل فى استقبالى
قائلا:
- مبروك ياسى مصطفى .
- الله يبارك فيك
- خلينا احنا بقى فى المهم
.. عملت ايه فى موضوعنا.
- شوف يا معلم أنا اتكلمت
مع اخوتى .. وهما مش موافقين
على عرض التعويض بتاعك
.. لأن ده بيتنا .. ومش حانسيبه
.. وبينا وبينك القانون.
- كده برضه يا أستاذ .. على
كل حال كويس انها جت من
ناحيتكم .. وكل واحد يشوف
مصلحته .. وبالقانون برضه
يا درش.. بالقانون.
لم أعلق على كلمات الرجل
الأخيرة.. وتركته صاعدا
للمنزل لأجد ناصر جالسا
فى محادثة هاتفية مع رفاقه
.. فور أن فرغ منها تناولت
معه ما جرى مع عطوة قائلا:
- الراجل ده مش حيعدى الأمور
بالساهل يا ناصر .. شكله
كده مش حيجيبها لبر .. منك
لله يا بابا .. كله من ...
- بلاش كده يا مصطفى .. ده
بين ايدين ربنا دلوقتى.
- عندك حق يا ناصر .. بس طب
قولى حنعمل ايه؟؟
- الغريبة انى مش فاهم ايه
اللى حمسه فجأة كده النهاردة
بالذات؟؟.
- بصراحة يا ناصر .. الراجل
كان حاطط عينه على أختك
نبيلة.
- نبيلة!!! .. ده عجوز ومتجوز
اتنين ومخلف ستة.
- تقول ايه بقى .. أنا كنت
حاسس بكده .. وحاولت كتير
آحرص بدون دوشة.
- خير ما عملت يا درش .. بص
احنا لازم ما نسيبش البيت
لوحده اليومين دول.
- عندك حق يا ناصر.
- بص معلش النهاردة خلاص
.. وبكرة عليك لأنى مرتبط
بمحاضرات فى الكلية.
- طب وشغلى .. ماشى .. ولايهمك
.. أنا حا أتصرف.
وبحثت فى أرجاء المنزل
عن مجدى ورانيا وقبل أن
أجدهم كانوا قد قذفوا
بأنفسهم فى أحضانى انتظارا
للحلوى المعتادة عند
عودتى للمنزل ..
تركت مكانى وذهبت الى
نبيلة فى حجرتها وقبلتها
على جبينها .. ونظرت الى
ياسر علنى أجده قلقا انتظارا
لنتيجته المرتقبة كما
هو مفترض .. لكن هيهات لهذا
الفتى الذى غاب بكل ارادته
عن حاضره .. ودلفت الى المطبخ
لأجد أمى فى مكانها المعتاد
.. وقد اختفت الابتسامة
من على وجهها عندما عاودت
النظر فجأة تجاه حائط
باحة المنزل متأملة الصورة
القديمة لأخى الغائب
( على ) قبل أن تتبعها بنظرة
باكية على صورة أحدث لأخى
الفقيد ( راضى ) .. وكأنها
تجتر أحزانها خشية أن
يداهمها شعور منطقى بالسعادة
.. كم هى تعيسة هذه المرأة
.. لاتكاد تفرح حتى تواليها
المآسى من كل حدب وصوب
.. وقبل أن أكمل عادت لتنظر
الى السماء .. وتمتمت بدعائها
السماوى .. فتركتها لحالها
.. وعدت الى فراشى والأطفال
بين أحضانى .. واستسلمنا
ثلاثتنا لنداء الطبيعة
فى نوبة نوم عميق.
اليوم الموعود
كانت مفاجأة سارة غير
متوقعة .. حين وصلتنا أنباء
نجاح ياسر ..نعم كانت النتيجة
متواضعة .. لكنها تبقى معجزة
بكل ما تعنيه الكلمة .. بركة
دعائك يا أمى ..
كان ياسر قد غادر الى كليته
كما أخبرنى بالأمس .. فتناولت
هاتفى لاجراء بعض الترتيبات
للاجازة من عملى .. وأيضا
لسماع صوت ليلى.. وانهمكت
فى مكالماتى .. قبل أن تصل
الى مسامعى أصوات ضوضاء
عالية آتية من الخارج
.. ولم أهتم وتابعت ما أفعله..
قبل أن تدخل نبيلة فزعة
.. تصرخ فى وجهى قائلة:
- الحق يا مصطفى .. عطوة جايب
بلدوزر وهيهد البيت على
راسنا.
- ده كلام .. هو احنا عايشين
فى غابة .. وقبل أن أكمل كلامى
سمعت طرقات متوالية على
باب المنزل .. فدس الطفلان
رأسيهما تحت الغطاء خوفا
وهلعا ., وهببت أنا لأرى
من بالباب .. لأجد رجلا بزى
رسمى يحمل أوراقا .. بمجرد
رؤيته لى لاحقنى بفتور
قائلا:
- ده منزل الأستاذ/ فكرى.
- أيوة يا فندم .. خير!!!
- ده قرار من المحكمة بالاخلاء
ولازم تنفذوا دلوقتى.
- اخلاء .. اخلاء ايه .. وليه؟؟
- البيت با سيد .. عشان صادر
له قرار ازالة وانتم وصلكم
ايصال بالعلم من شهر وما
نفذتوش .. عشان كده دلوقتى
التنفيذ حيكون بالقوة
الجبرية.
- يا فندم .. ايصال علم بايه
.. ماوصلناش حاجة.
- أنا ما أعرفش الورق اللى
معايا بيقول كدة .. ياريت
تساعد القانون عشان ياخد
مجراه.
- قانون .. أى قانون.. طيب ادينا
فرصة .. مش معقول اللى انت
طالبه ده .. هو احنا فين يا
ربى ؟؟
وتذكرت أمى .. فاندفعت تجاهها
.. وصرخت فى وجهها:
- أمى .. أرجوكى كلميه .. ادعيه
يرحمنا .. خليه يصرف الهم
ده عنا .. وارتميت تحت قدميها
وقد انتابتنى نوبة بكاء
عنيف، فبل أن تنحنى أمى
لتساعدنى فى معاودة الوقوف..
قبل أن تنطق بكلمات نادرة
تخيلت مجرد حدوثها هو
درب من الأوهام .. قالت بهدؤ:
- مصطفى .. خد أختك وأخوك ياسر
والعيال و أنزل تحت.
- لكن يا ماما.
- اسمع الكلام .. انزل وسيبنى
أتصرف.
- لم تمنحنى أمى فرصة للاعتراض
أو حتى للاستفسار.. فسحبت
كل من بالمنزل عداها ونزلت
بهم خارجا .. تاركا لها وحدها
مع مصير مجهول , وعندما
خرجت تقابلت مع عطوة فوجدته
منفرج الأسارير .. تعلو
نظراته شماتة متوقعة
.. مالبث أن دعمها بقوله:
- - معلش يا درش .. حقى وحقك
.. بالحق .. مبروك يا عروسة
.. ان شاء الله الفرح حيكون
فى الخرابة اللى ورا , وتصاعدت
منه قهقة صاخبة برزت معها
ما تبقى من أسنانه المتهالكة,
لكنى مع هذا لم أعبأ بالرد
عليه .. كان مصير أمى هو كل
ما أهتم به فى تلك اللحظة
،، وسرعان ما تذكرت الهاتف
.. يا للقدر انه بالأعلى
.. ماذا أفعل؟؟ . لم يطول انتظارى
.. فقد مد ( عم جمعة ) يده بهاتفه
لينقذنى من حيرتى .. وبأصابع
مرتجفة سارعت بالاتصال
بناصر كى يسارع بدعمى
فى هذا الموقف العصيب
.
مر وقت طويل ولم يجد جديد
.. بقى الوضع على حاله عطوة
يقف متحفزا بجوار آلته
التدميرية .. وأمى بالأعلى
لا أدرى ماذا حدث لها مع
رجال الحكومة .. وناصر لم
يصل بعد .. لكن صبر عطوة كان
قد بدأ فى النفاذ .. فذادت
عصبيته .. وراح يصرخ فى الجمع
من أهل المنطقة كى يبتعدوا
حتى لا يطالهم مكروه عندء
بدء عملية الهدد .. ولم يعدم
الوسيلة فى أساليب التهكم
على مطاريد الحارة حسب
وصفه .. ورغم استياء الجمع
لم ينيرى أحدهم ليرد عطوة
عن بعض ما يفعله .. بينما
انهمكت أنا فى اتصالاتى
الغير مجدية بمعاونة
( عم جمعة ) الذى كان كريما
فى وقت كنت فيه فى أشد الاحتياج
لشخص مثله.. هذا العجوز
الذى أخذ اخوتى مع الصغار
وأجلسهم داخل محل البقالة
الخاص به .. وكم كان كريما
معهم أيضا بما يقدمه من
طعام خفيف وشراب .. وقبل
أن أسترسل فى أفكارى .. استفقت
على أصوات محركات البلدوزر
وقد بدا أن الأمر قد صدر
له بالتنفبذ .. لكن ممن؟؟
وماذا عن أمى .. واندفعت
صارخا:
- استنوا يا جماعة .. أمى لسة
فوق .. يا ناس فين العدل ..
فين العدل .. فينك يارب..
وقبل أن أكمل كلماتى اذا
بسيارة سوداء مسرعة تدخل
المنظقة .. وتقف فجأة أمام
الجمع لينزل قائدها منها
.. يالها من مفاجأة صاعقة
.. انه سامى خطيب أختى .. فسألت
نفسى فى اندهاش:
- طب هو عرف ازاى ؟؟
وقبل أن تطول حيرتى .. جاءتنى
الاجابة على تساؤلى .. حين
وجدت ناصر ينزل من الجهة
الأخرى للسيارة .. وبصحبته
رجل ممتلئ بملابس رسمية
تبدو عليه سمات الهيبة
والعظمة.
وخلفهم سيارات كثيرة
بعضها حكومى والأخرى
خاصة تحمل زملاء ناصر
وهم فى حالة من الثورة
والغضب ليست غريبة عنهم
قبل أن يمنعهم ناصر من
التحرش بعطوة .. وكانت المفاجأة
الكبرى الغير متوقعة
فى ظهور ليلى وسط الجمع
حين لمحتها تركض نحوى
فى لهفة وخوف.
وتقدم سامى ومعه الضابط
نحو عطوة .. حين خاطبه الأخير
بلهجة حاسمة آمرة قائلا
له:
- ممكن نشوف أورق المحكمة
اللى معاك يا معلم
فارتبك عطوة .. وتردد فبل
أن يبرز بعض الأوراق وهو
يقول:
- باقى الأوراق مع الجماعة
فوق يا سعادة البيه.
نظر الضابط الى الأوراق
وتفحصها بعينين خبيرتين
.. قبل أن يصرخ فيه بصوت حاد:
- الأوراق دى مزورة يا معلم
.. انت مقبوض عليك.
- لكن ليه يا بيه .. ده أنا
.. ده أنا.....
- ولا كلمه .. خده يا عسكرى
ع البوكس .. ياللا نشوف ايه
اللى بيحصل فوق.
وفبل أن يدلف الضابط مع
أعوانه صاعدا درجات المنزل..
فوجئت بآخر شخص يمكن أن
أراه قى هذه الظروف الاستئنائية
.. خاصة وفى وجود الشرطة
بالذات .. نعم انه هو .. انه
( على ) .. لقد ظهر أخيرا ( على
) برفقة عمى كامل .. الذى كان
فيما يبدو على اتصال دائم
به فى الخفاء .. يالدهاء
هذا العجوز .. ويالك من غريب
الأطوار يا على .. يطول بك
الغياب و فقط تظهر الآن
حين تعرف أن أسرتك مهددة
بالانهيار .. مهما كانت
الخسائر والتضحيات .. اندفعت
نحوه وارتميت فى أحضانه
وقبلت وجنته .. قبل أن أنظر
فى عينيه .. لأجدها غريبة
.. ليست كما كانت .. نعم , كانت
نظراتها مكسورة نادمة
.. بلا بريق .. يا لأخى المسكين
..
سارع ( على ) بتقبيل اخوته
.. وتبعها بقبلات سريعة
للأطفال بعد أن عرفته
بهم .. قبل أن يلتفت للضابط
وقال له مستسمحا:
- أرجوك يا حضرة الضابط
.. أنا سلمت نفسى برغبتى
.. بس أرجوك أشوف أمى,
- مافيش مانع يا على .. ياللا
بينا.
وصعدنا جميعا درجات السلم
.. حيث كنت فى لهفة شديدة
.. أترقب مصير أمى .. التى
تركتها رغما عنى .. لتواجه
موقف ينؤ من حمله أعتى
الرجال .. وحين وصلنا لباب
المنزل لم نجد أحد .. كيف
هذا؟؟ .. أين الرجال؟؟ .. بل
أين أمى؟؟
لم تدم دهشتنا طويلا .. فقد
كان الرجال بداخل باحة
المنزل يتناولون الشاى
.. فى سكون .. وكأن على رؤسهم
الطير .. وكانت أمى تقف أمامهم
ممسكة بيدها اليمنى ابريق
زجاجى مملؤ بالماء وبيدها
اليسرى كوب فارغ لتلبية
رغبة أى منهم فى اطفاء
ظمأه .. ولم يدم انتظارنا
كثيرا .. حين هب الرقيب ومن
معه من جنود لتأدية التحية
للضابط الذى وفد عليهم
فجأة .. وكادت تتساقط أكواب
الشاى من أيديهم .. قبل أن
يتلطف معهم الضابط قائلا:
- زى ما انتم يا خضرى .. ايه
الحكاية؟؟
- والله ما عارف يا فندم
( وقد أومأ برأسه خجلا ) ..
الست دى طلبت مننا ندخل
عشان تضايفنا بالشاى
.. مش عارف ليه حسيت انها
يمكن تكون مظلومة .. وبصراحة
يمكن سعادتك ما تصدقنيش
.. لو قلت لسيادتك انه وكأن
جانى صوت من جوايا .. انى
أدخل أنا والجماعة أشرب
الشاى.. بس عشان أديها الوقت
يمكن ربنا ينصفها .. ليه
؟؟ .. ما أعرفش !! .. ( قبل أن يخرج
منديله لتجفيف عرقه المتصبب
.. مصحوبا بابتسامه قصيرة
من الضابط ).
ونظرت الى أمى .. فوجدتها
كعادتها هادئة مبتسمة
.. ناظرة لأعلى .. متمتمة بدعائها
لرب السماء .. يا الله .. ماهذه
المرأة ؟؟
حين ارتمى ( على ) فى أحضان
أمى .. وراح يدفن رأسه بين
ثنايا صدرها الحنون .. وبادلته
أمى بقبلات على جبينه
محملة بكل حرقة الحرمان
السابق وحزن الوداع القادم
.. ولم يمهلها أخى ( على ) حين
اردف قائلا لها باكيا:
- سامحينى يا أمى .. كان فيه
حاجات كتيرة كنت فاهمها
غلط .. لكن ان شاء الله ربنا
حيكرمنى واللى جاى حيكون
باذن الله أحسن ..
كان المشهد مؤثرا جدا
فى كل الحضور .. حين شرعت
نبيلة فى الانتحاب .. قبل
أن يلتفت اليها ( على ) فيوقفها
بقبلة على جبينها .. ثم ينظر
باسما تجاه سامى .. قبل أن
يقرب فاه ليهمس فى أذنيها
قائلا:
- مبروك يا عروسة .. ثم يعود
ليمسك يد أمى وينحنى لها
ليقبلها وهويتمتم باستعطاف
قائلا:
- ادعيلى يا أمى .....
ولم تكن أمى فى انتظار
طلبه للبدء فى التنفيذ
, واستدار ( على ) نحو الضابط
وهتف فى وجوم قائلا:
- انا دلوقتى تحت أمرك يا
حضرة الضابط.
- تمام كده يا على .. أكيد
كل ده حيكون فى مصلحتك.
حين تدخل عمى كامل فى الحديث
قئلا:
- الحمد لله .. تمام زى ما
قولتلك يا ( على ) .. صدقتنى
دلوقتى؟؟ ( متسائلا )...
فيرد ( على ) بهدؤ وانكسار
وهو يداعب لحيته الشعثاء
بأطراف أنامله:
- شكرا يا عمى .. شكرا يا حضرة
الضابط .. ثم أكمل دامعا:
- شكرا لكم جميعا .. ياريت
تسامحونى .. أستودعكم الله
( باكيا ) ..
ثم اندفع خارجا مع مرافقيه
دون أن ينظر خلفه .. هربا
من نظرات الوداع .. تلاحقه
دعوات أمى .. ونحيب أختى
.. وصمت ناصر وياسر .. ودهشة
الصغار.
الغائب الحاضر
كان حفل صغير .. لكنه مبهج
.. يملؤه البهجة والفرح
.. فعلى الرغم من صغر المكان
وكثرة الحضور .. الا أن عمى
كامل بخبرته العسكرية
وحنكته التنظيمية سار
بمراسيم الحفل الى أبهى
صورة .. لقد استعاد الرجل
ذكرياته وراح يستمتع
بالصراخ فى هذا ليجلس
هناك .. ويتعالى بالنداء
لهذه كى تحضر الشراب .. ولامانع
من أن يدس فى فمه خلسة بعض
الحلوى قبل أن يعاود صراخه
بفمه المملوء بالطعام
فى الصغار كى تهدأ قفذاتهم
وصرخاتهم الفرحة ..
نظرت بعفوية الى صورة
( راضى ) فكأننى تخيلته مبتسما
.. فقد وجدته ولآول مرة يحمل
شئ من أسمه .. فقد وجدت ( راضى
) لأول مرة راضى عن كل ما
يحدث ..ورحت أحدث صورته
هامسا:
- يا لأخى المسكين .. لقد ضحيت
بحياتك من أجل انقاذ اسرتك
.. انك شئ نادر الوجود .. قطعا
أنت الآن اتكتبت عند الله
شهيد .. لأنه سبحانه وتعالى
الوحيد اللى كان عالم
بحالك وحالنا .. و .. وفجاة
ذكرت كلماته عن أبى حين
التقيت به فى الحلم .. قبل
أن أهز رأسى فى حركة لاارادية
.. وكأنى أنفض رأسى من أفكار
لازلت غير مقتنعا بها.
وحين وضع سامى خاتم الخطوبة
فى اصبع نبيلة .. انطلقت
الزغاريد من هنا وهناك
.. واشتعلت الأهازيج و التعليقات
المازحة .. يالها من ليلة
رائعة.
كنت فى تلك الحظة أتابع
بعيون دامعة كلمات التهنئة
فى رسالة ( على ) القصيرة
التى أفلح بمساعدة المسئولين
فى ارسالها من محبسه كى
يشاركنا الفرحة حتى ولو
لم يكن بجسده بيننا .. ابتسمت
ورحت أبحث بنظرى عن أمى
وسط الجمع المحتشد كى
تقرأ الرسالة وتكتمل
فرحتها .. لكنه بدا أمرا
شبه مستحيل أن أجدها وسط
هذه الحشود من النسوة
والفتيات داخل الحجرات
والمطبخ ، فتابعت تجولى
بنظرى فى تلك الوجوه السعيدة
من حولى .. حين لاحظت على
الفور فرحة مجدى ورانيا
بالحلوى التى توافرت
بكثرة فى كل مكان بالحفل
.. فلبت رغباتهم وذادت سعادتهم
.. كانوا يختلسون القفذات
مع أولاد عمى كامل بعيدا
عن عينيه قبل أن يتنبه
لهم فيعاود صراخه فيهم
كى يهذأوا فيتظاهروا
بالهدؤ برهه قبل أن يعاودوا
الكرة ثانية.
تابعت النظر فيمن حولى
.. الكل مبتهج .. عم جمعة , الأسطى
مرسى , الست نبوية , عم رمزى
.. كل الأحبة اجتمعوا كى
يشاطروا أسرتى الفرح
.. ناهيك عن ياسر وقد بدا
مختلفا .. حينها رحت أحدث
نفسى متسائلا:
ترى ماذا حدث لياسر ؟؟..
كيف حدث له هذا التغيير
الاعجازى؟؟ .. أنا فى حقيقة
الأمر لا أعرف السبب تحديدا
.. هل كان هذا بفضل المساعدة
الطبية من ( د/ محمود ) صديق
سامى زوج شقيقتى فقط؟؟
.. لا أعتقد .. فكم من المحاولات
الطبية الفاشلة خاضها
هذا الفتى البائس فى السابق
.. ماذا اذن ؟؟ .. ربما لتفاعله
مع ما مر بنا من أحداث أخيرة
.. لا .. لا .. قد يكون بسبب صاعقة
نجاحه المفاجئة .. أيضا
لا .. كيف اذن؟؟ .. نعم .. انه
هذا .. أنه غالبا وهذا هو
الاحتمال الأرجح .. ان كل
ماحدث لأخى لايعدو أن
يكون الا معجزة من السماء
تعودناها فى تلك الأيام
الأخيرة بفضل دعاء أمى
المتواصل.
أما ناصر فقد انهمك مع
ضيوفه الثائرين فى احدى
أركان باحة المنزل وقد
انهمكوا فى نقاشاتهم
الحادة المعتادة وكأنهم
قد انفصلوا بها عن أجواء
الحفل الصاخب .. وبالطبع
لم يفوتنى ملاحظة اللمسات
والهمسات الخفية بين
ناصر وزميلته رضوى .. فتملكنى
الفضول فجأة دون سبب .. فاقتربت
منهما أختلس الخطوات
متصنتا .. حين سمعته يعاتبها
هامسا:
- وايه آخر أخبار صفوت ابن
خالتك ( متسائلا ) .. ثم أكمل
بسخرية:
- هو ليه ماجاش معاكى النهاردة.
فردت رضوى عليه بامتعاض:
- يا دمك يا أخى .. ثم أكملت:
- أنا نسيت أقولك انهم نقلوه
الصعيد فى الحركة اللى
فاتت من شهر كدة.
فتهلل وجه ناصر بالفرحة
.. حين قال:
- الحمد لله .. ريح واستريح
, ثم اقترب برأسه نحو أذنيها
وقال بصوت حانى هامس:
- دلوقتى بقى نقدر نفضى
للى ورانا.....
فتنحنى رضوى برأسها خجلا
.. قبل أن يختلس ناصر قبلة
من خدها الأيمن دون أن
يلحظ باقى الفريق .. لتزداد
رضوى فى خفض رأسها هربا
منه.. وقد اشتعل وجهها بحمرة
الخجل .. كانا فى حالة من
الحب والهيام .. وهممت أن
أبتعد قبل أن يكتشف ناصر
وجودى .. فرمقنى بنظرة غاضبة
.. فرردت عليه بابتسامة
قصيرة لاتخلو من الخجل
.. قبل أن أسرع الخطى مبتعدا
عنهم .. لأستمر فى جولتى
البصرية .. راصدا الفرح
والسعادة فى عيون كل من
حولى .. حين انتابتنى مشاعر
من الراحة والسكينة .. فكل
شئ والحمد لله يسير على
ما يرام .. وتمتمت لنفسى
بصوت خاقت:
- بركة دعاكى يا ماما.
وفجأة وجدتنى أمام المرآة
.. فرأيت خيال وجهى بها ..
فتسمرت فى مكانى .. واقتربت
برأسى احملق فى عياناى
بالمرآة .. حين لمحت بها
لمسة من الحزن .. وكأن لوثة
عقلية قد استبدت بى فى
هذه اللحظة .. حين بدأت أتساءل
فى خاطرى بلهفة كالمخبول:
- لكن ماذا عنى .. أين نصيبى
من هذه السعادة الغامرة
التى ترفرف على الجميع؟؟
.. قبل أن تتراءى لى خيالات
ليلى بالمرآة .. فأنطلقت
محدثا لها:
- كم أنا مشِتاق لرؤيتك
الآن .. كم أنا الآن فى شدة
الاحتياج لوجودك معى
.. ترى أين أنتى الآن؟؟ ..
قبل أن أكمل بحرقة:
- أين أنتى يا قلبى .. يا الاهى
أين هى .. أين ليلاى ؟؟
وقبل أن أكمل .. أحست بحضورها
قبل أن أراها .. يالله .. كم
زادت سعادتى حين أطلت
ليلى لتبهج قلبى .. كنت كمن
ردت له روحه .. فهببت من فورى
لمقابلتها وأنا فى قمة
سعادتى .. قبل أن تذهب برفقتى
لتقديم هديتها للعروسن
.. عندها همست فى أذنيها:
- طيب وفين هديتى أنا؟؟
ردت على همساتى بدلال
رشيق:
- وبعدين معاك يعنى ..
- مش قادر أستنى أكتر من
كده .. بصراحة أنا غيران
..
- خلاص هانت يا مصطفى .. كلها
كام سنة ويتلم الشمل.
- نعم .. كام سنة .. وحياتك عندى
كلها كام اسبوع .. وفجأة
قبل أن أكمل كلماتى .. وقعت
عيناى مرة أخرى على صورة
( راضى ) بصورة عفوية .. فتذكرت
بلا مبرر والدى المقيم
فى فراشه .. لا أعلم لماذا
تذكرته مرة أخرى الآن؟؟
.. وما هو هذا الشئ الغامض
الكائن بداخلى .. يحركنى
دون رغبتى .. بل ويدفعنى
دفعا .. وقد عقد العزم على
ربط سعادتى بأبى؟؟ .. وفجأة
تذكرت رسالة ( على ) .. يا الاهى
لقد أنستنى أجواء الفرحة
أمر هذه الرسالة الهامة
.. وعلى الفور تذكرت أمى
.. فعاودتنى الرغبة الملحة
فى متابعة البحث عنها
.. فرفعت رأسى باحثا فى الوجوه
المحتشدة عن تلك المرأة
المختفية كما كنت أفعل
منذ قليل ..
لاحظت ليلى لمحات التغيير
على وجههى .. فصاحت متسائلة
بعصبية:
- فيه ايه يا مصطفى .. انت
ندمت وللا أيه؟؟
- عيب تقولى كدة يا ليلى
..
- أمال جرالك ايه؟؟
- بس انتى تعالى معايا ..
تابعت بحثى عن أمى بصحبة
ليلى .. لأجدها أخيرا فى
مكانها المعتاد .. المطبخ
الصغير .. تعد الشراب للحضور
فى هدوء وسعادة , اقتربت
منها .. وقبلت وجنتيها , وتبعتنى
ليلى , فبل أن أهمس فى أذنيها
متسائلا:
- عندى خبر حلو يا جميل..
كالعادة لم تعر أمى كلماتى
أى انتباه كالمعتاد.. ما
هذه المرأة .. دائما هى قانعة
.. راضية.. أى نوع من البشر
أنت يا أمى , لم أيأس .. لوحت
لها بالرسالة فى يدى , اختطفتها
وقرأتها بسرعة سرا .. دون
أى تعليق الا من بعض العبرات
تقاطرت من عينيها الدامعتين
.. سارعت أمسح دموعها بيدى
وقبلتها فى جبينها فاحتضنتنى
وقبلتنى .. وقتها أحسست
أنى أهيم فى عالم من الحنان
اللا نهائى فى أحضان تلك
الأم العظيمة .. قبل أن يهفو
أبى بخاطرى مرة أخرى خلال
عدة دقائق قليلة معدودة
. انه حدث غريب لم يحدث لى
خلال ما سبق من سنوات .. فكيف
يجول هذا الرجل فى الحاح
بخلدى؟؟ .. كيف يستحضر ذهنى
أبى رغم كل ما فعله بنا
؟؟ .. كيف؟؟ .. ولماذا ؟؟ .. وفجأة
تذكرت كلمات ( راضى ) مرة
ثانية .. وزادت تساؤلاتى
.. ومع كل تساؤل يقفذ الى
عقلى المضطرب تذاد دهشتى
وانفعالاتى .. ياله من شعور
غريب أوغل فى صدرى .. وكأنه
سكين شق ما بداخلى الى
نصفين .. صرت فى حالة انفصام
روحانى .. جزء منى يصارع
الآخر .. قبل أن تنتابتنى
حالة من الهدؤ والسكينة
المفاجئة .. ماذا يحدث لى؟؟
.. ماهذا الاحساس الغريب؟؟
.. اننى أشفق على الرجل ..
لا بل أشتاق لرؤيته .. كيف
يحدث هذا؟؟ .. هذا شئ عجيب
وغريب .. لا أستطيع أن أجد
له أى تفسير .. وذادت حيرتى
.. قبل أن أجد ضالتى فيمن
يحتضنى صدرها .. لجأت الى
أمى كى تنتشلنى من حيرتى
.. فرفعت رأسها لتلتقى عيناى
بعينيها الدامعتين .. وأطلقت
بصعوبة كلمات هامسة .. خرجت
من فمى بتلقائية ..حين قلت
لها متسائلا أو مستعطفا:
- بابا ياماما !!
فنظرت الى عينى وهمست
بكلماتها القليلة النادرة:
- سامح يا مصطفى .. المسامح
كريم .. أنا سامحته من زمان
..
ثم أردفت بصوت هادئ واثق:
- هو قالى كده .. ونظرت للسماء
وراحت تتمتم بدعواتها
السماوية المعتادة.
تذكرت كلمات ( راضى ) فى الحلم
.. ومناشدته لى بالعفو عن
أبى .. وتذكرت كلماته عن
عفو أمى أيضا عنه .. فسرحت
محدثا نفسى:
- يا لأخى المسكين .. لقد كنت
على حق .. ترى هل كان هذا حلما
.. أم رؤية كنت تحاول ابلاغى
رسالة من خلالها .. أنا الآن
أثق بأنك فى مكان جميل
.. يبدو أنك كنت على حق .. وأمى
أيضا على حق .. يا لحيرتى
...
نظرت الى ليلى فى حيرة
.. وتابعتنى ليلى أيضا بنفس
النظرات الحائرة, وبعد
لحظات من السكون القاتل
.. عاجلتنى ليلى بكلمات
صادمة:
- مصطفى ياللا بينا....
- على فين يا ليلى؟؟ ...
- نكمل رسالتها .. ونسامح
.. هو قال كده .. يبقى لازم
نعمل كد .. وللا انت ايه رأيك؟؟
- عندك حق يا ليلى .. هو كان
دايما معانا .. ووقف كتير
جنبنا بستره ورحمته ..
وأكملت بحماس قائلا:
- ودلوقتى لما يقولنا حاجة
يبقى لازم على طول نعملها
..
قبلت رأس أمى .. وأمسكت بيد
ليلى .. فتشابكت أصابعنا
.. قبل أن أنظر الى الباب
وأصيح بانفعال:
- ياللا بينا نروح لبابا
.. يا للا..
دواء القلب
كان الظلام قد بدأ يسدل
أستاره.. حين اندفعت من
فورى ومعى ليلى .. نهبط درجات
سلم المنزل عدوا .. مسرعى
الخطى .. تاركين الحفل بمن
فيه .. فمهمتنا الآن أهم
وأثقل .. ولا تحتمل أى تأجيل
آخر ..
كان الطريق معتما الا
من بعض الاضاءة الآتية
من مصابيح الزينة لحفلنا
الصغير .. حين بقينا على
حالنا نخطف الطرقات والدروب
.. ونسابق الزمن ..
كنت فى هذه اللحظة أحس
بأنى كالتائه فى صحراء
قاحلة .. اتوق لرشفة ماء
قبل أن يقتلنى الظمأ .. حينها
أسرعت فى ركضى أكثر دون
وعى .. حتى أنى لم ألحظ المسكينة
ليلى وقد تقطعت أنفاسها
خلفى .. وهى تحاول يائسة
بكل ماتبقى لديها من قوة
خائرة .. أن تتمكن من اللحاق
بى .
وعند وصولنا أخيرا لباب
المشفى .. هممنا بالقفز
فوق درجات سلمها .. نخطفها
خطفا .. قبل أن تلوح فى ذاكرتى
كيف كانت مشاعرى فى السابق
.. فرددت محدثا نفسى بصوت
هامس وسط أنفاسى المتسارعة:
- يا سبحان الله كنت فى الماضى
القريب أصعد تلك الدرجات
بتثاقل وبطء .. كم هو جميل
الشعور بالتسامح .. انه
دواء لكل قلب مطعون .. حتى
لو كان الطاعن للقلب هو
الأقرب اليه ..
انتبهت ليلى على أصوات
همسى .. فقالت متسائلة وهى
تلهث:
- ايه .. انت بتقول حاجة يا
مصطفى ؟؟
فاستفقت مما كنت به .. وتوقفت
ونظرت لها قائلا بصوت
متقطع:
- عاوز أقول بأنى حاسس انى
بقيت شخص تانى .. ثم تابعت
منفعلا بصوت عالى مسموع:
- شخص نضيف .. مافيش فى قلبه
الا الحب .. با أحب كل الناس
.. باأحب أمى واخواتى .. ثم
توقفت فى لحظة صمت قصيرة..
وقد هدأت أنفاسى ، قبل
أن استطرد قائلا:
- حتى بابا بقيت باأحبه
...
علقت ليلى على كلامى باستنكار:
- بس دول با مصطفى اللى بتحبهم؟؟..
فنظرت الى عينيها وقلت
لها:
- انتى اللى حبك خللانى
أحب الدنيا والناس كلها..
فأشاحت ليلى برأسها عنى
خجلا عندما أحست بأن من
بالمكان قد بدأوا فى الالتفات
لنا ، قبل أن تعاود النظر
الى مرة أخرى .. وكأنها تذكرت
شئ هام فقالت بصوت جاد:
- مصطفى .. احنا لازم ننقل
عمى لمستشفى أقضل من دى
..
فهززت رأسى موافقا على
رأيها .. فالأمور قد تيسرت
الآن بقدر يمكننى من فعل
هذا .. وتابعتها بابتسامة
قصيرة تعبيرا عن امتنانى
لمشاعرها تجاهى وأسرتى
.. حقا هى هدية الله لى .. نعم
انها أيضا احدى هباته
العديدة ببركة دعاء أمى
.. فنظرت لها بحب .. وبادلتنى
هى نفس النظرات .. قبل أن
نواصل معا الركض الحثيث
الى حيث يرقد أبى ..
وعندما اقتربت من جسد
أبى الواهن المستلقى
على فراشه الرث, رفعت رأسى
ناظرا الى عينيه الباهتة
.. كان نصف واعى .. وعندما
التقت عينانا .. أطلقت فى
وجهه الشاحب ابتسامة
قصيرة .. حملتها بكل ما يجيش
فى صدرى نحوه فى هذه اللحظة
الفاصلة .. حيث حاولت جاهدا
أن أوضح له جليا ما طرأ
على قلبى من مشاعر ايجابية
نحوه .. فأوما برأسه بصعوبة
وأغمض جفنى عيونه المرهقة
, حينها لمحت نظرة رضا وراحة
فى تلك العيون الميتة,
فانحنيت بعيون دامعة
مقبلا رأسه النحيلة .. ثم
اقتربت بشفتاى نحو أذنيه
هامسا:
- ازيك يابابا .. ماما بتسلم
عليك .
النهاية
-------------------------------------
تعليق الكاتب
عزيزى القارئ
أرجو أن تسامحنى على تلك
النهاية الصادمة لقصتى
الرمزية المتزامنة مع
ما تمر به بلادنا من أحداث
.. فبالرغم من تفاعلى مع
كل التفاصيل فى أحداث
ثورة مصر المباركة .. وحرصى
على أن أدلل على كل طرف
محرك للأحداث بشكل رمزى
.. فى قالب درامى تفاعلى
.. ورغم أن قناعاتى على المستوى
الشخصى كانت ولا تزال
تتبنى نهج مغاير تماما
لنهاية تلك القصة .. الا
أننى فوجئت مثلك تماما
عزيزى القارئ .. بأن تسلسل
الأحداث فى قصتى قد سارت
بى .. وبك .. نحو تلك النهاية
الغير متوقعة .. بل واللا
مرغوبة على حد سواء .. ربما
هو الوحى كما يقال .. أو هى
الحبكة الدرامية التى
اقتضت أن أسير بالنهاية
على نحو معاكس تماما لما
أؤمن به بل و أتمناه فى
قرارة نفسى .. ولكن على أيه
حال .. فقد حاولت جاهدا أن
أرصد أحداث تاريخية فى
صورة شخوص درامية شديدة
الرمزية .. والأيام القادمة
سوف تخبرنا بالقطع عن
النهاية العادلة لمحركى
الأحداث الحقيقيين .. لأننى
أؤمن دائما بأن الواقع
أصدق وأوقع من الخيال.
==========================================================
|